«كورونا».. الدروس وأسئلة المستقبل

03:23 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

يبدو أن متغيرات كبرى ستلحق بعالم ما بعد رعب «كورونا»، وقد تفضي إلى زعزعة ركائز النظام الدولي الراهن، ليفسح المجال واسعاً لإرساء نظام دولي جديد.

لا تخفى التأثيرات الكبرى التي تخلفها الأزمات والكوارث عادة، على مختلف الواجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فالممارسات الدولية الحديثة حافلة بكثير من التجارب القاسية التي كانت لها تداعيات كبرى على مستوى النظام الدولي برمته، فالحرب العالمية الأولى أعقبها تأسيس أول منظمة عالمية وازنة لإرساء السلام، ونقصد عصبة الأمم، وبدورها قامت الأمم المتحدة في منتصف الأربعينات من القرن الماضي على أنقاض الحرب العالمية الثانية، فيما شهد العالم متغيرات متسارعة بعد نهاية الحرب الباردة في بداية تسعينات القرن المنصرم. وأفرزت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 انعكاسات كبرى طالت مختلف دول العالم، كان أهمها اختزال الأولويات الدولية في مكافحة الإرهاب.

عندما بدأ فيروس «كورونا» في الانتشار خلال شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2019 بمدينة «ووهان» الصينية، لا أحد كان يتصور أن الأمر سيتحول إلى وباء عالمي بإقرار من منظمة الصحة العالمية، وإلى أخطر أزمة صحية تواجه دول العالم، بما فيها الدول الكبرى كالصين وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا.

خلف الوباء ردود فعل واسعة في أوساط الكثير من المهتمين والباحثين والسياسيين، بين من اعتبر الأمر مجرد وباء طبيعي، لا يختلف كثيراً من حيث مخاطره وتداعياته عن الأوبئة التي واجهت الإنسانية تاريخياً، وبين من اعتبره امتداداً للحروب البيولوجية التي تندرج ضمن صراعات دولية، تنحو من خلالها الولايات المتحدة إلى إلحاق الأذى بالاقتصاد الصيني.

فيما زعم آخرون، بأن الصين نجحت إلى حد كبير في استثمار انتشار هذا الفيروس، لأجل تقوية عملتها، والتخلص من ثقل الاستثمارات الأوروبية والدولية في البلاد، بعد انهيار الأسهم بصورة غير مسبوقة تحت ضغط انتشار الوباء.. ضمن ما يمكن أن نسميه بإدارة بالرعب التي تقوم على إثارة الخوف والفزع داخل المجتمعات، بصورة تسمح بتيسير تمرير قرارات وتشريعات عادة ما يصعب أو يستحيل تمريرها في الحالات العادية محلياً أو دولياً.

أعاد انتشار فيروس «كورونا» على امتداد مناطق مختلفة من العالم، موضوع السلم والأمن الدوليين وما شهده من تطورات وتوسع خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إلى واجهة النقاشات الدولية على المستويات السياسية والأكاديمية، في عالم لم تعد فيه الحدود السياسية حائلاً دون تمدد المخاطر العابرة للدول، كما هو الأمر بالنسبة للإرهاب وتلوث البيئة والجرائم الرقمية والأمراض الخطرة.

خلف انتشار المرض حالة واسعة من الرعب والهلع عبر العالم، وعبّرت الكثير من الدول عن صعوبات جمة تواجهها على مستوى مواكبة تداعيات ومخاطر هذا الانتشار، على الرغم من إمكانياتها الاقتصادية والتقنية الهائلة.

وتباينت سبل التعاطي مع الوباء، بين دول فرضت حجراً على مدن ومناطق بكاملها لأجل احتواء هذا الأخير ومنعه من الانتشار، وأخرى لجأت إلى إقرار حالة الطوارئ بداعي الحفظ على الأمن الصحي للمواطنين، كما قامت دول عدة بمنع حركة الطيران المدني؛ بل إن الولايات المتحدة قامت بإغلاق حدودها حتى أمام الأوروبيين، الذين اضطروا بدورهم إلى إغلاق الحدود فيما بينهم.

على الرغم من كل هذا، يمكن القول إن الوباء وعلى قساوته وخطورته، يشكل محكاً لمراجعة الذات والوقوف على الاختلالات، ومحاولة تجاوزها بسبل علمية وعقلانية في المستقبل. فقد مكّن هذا الانتشار من إيقاظ الشعور بالمواطنة، كما حفّز على التضامن في عدد من البلدان، وأبرز أيضاً أهمية توفير بنيات طبية في مستوى المخاطر والتحديات، وحيوية الاستثمار في مجال البحث العلمي باعتباره البوابة الحقيقية نحو التقدم، وتحقيق الأمن بمفهومه الإنساني الشامل.

وعلى الرغم من الإمكانات المالية والتقنية والبشرية الضخمة التي سخرتها دول كثيرة من العالم ضمن خططها وتدابيرها الرامية إلى الحد من تداعيات الفيروس، ومنع تمدده وانتشاره، فقد تبين أهمية ترسيخ ثقافة بناءة في هذا الخصوص داخل المجتمع، ذلك أن جزءاً كبيراً من الخسائر التي تترتب عن الكوارث والأوبئة الفجائية، لا تتسبب بها هذه الأخيرة بشكل مباشر؛ بل ترتبط في جزء مهم منها بحالة الارتباك والذهول التي تخلفها في أوساط الناس، ما يدفع إلى سلوكات وخيارات متسرعة ومرتجلة وغير محسوبة قد تضاعف من حجم الخسائر.

إن ترسيخ ثقافة تدبير الكوارث والأزمات، بين الأفراد وداخل المؤسسات الحكومية والخاصة، هو مدخل ضروري وأساسي للتخفيف من حدة الأخطار الناجمة عنهما، ولتوفير الأجواء النفسية الكفيلة بمواجهتها بقدر من الاتزان والجاهزية. وهو ما يسائل الدول وعدد من المؤسسات والقطاعات، كالأسرة، والمدرسة، والإعلام وفعاليات المجتمع المدني والخواص، بالموازاة مع النقاشات العلمية/الطبية والتقنية.. الجارية بصدد مخاطر الفيروس، وسبل محاصرته والقضاء عليه، ثمة نقاشات أخرى، تحيل إلى أن ما يجري ضمن تطورات ميدانية غير مسبوقة، ستدفع دول العالم إلى مزيد من التضامن والحوار والشعور بالمشترك الإنساني، كسبيل لمواجهة مخاطر جديدة تهدد السلم والأمن في كل دول العالم دون استثناء.

وأخذاً بعين الاعتبار لتبادل الاتهامات القائمة بين الصين والولايات المتحدة بصدد مصدر الفيروس، وحمّى تسابق الطرفين إلى جانب قوى دولية أخرى نحو الاستئثار بإنتاج لقاح لهذا الداء الفتاك، يبدو أن متغيرات كبرى ستلحق بعالم ما بعد رعب «كورونا»، وقد تفضي إلى زعزعة ركائز النظام الدولي الراهن، ليفسح المجال واسعاً لإرساء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، تحظى فيه قوى دولية كالصين بمكانة وازنة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"