انتصار رئاسي يحتاج إلى أغلبية برلمانية

02:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

اختار الرئيس الفرنسي المنتخب ايمانويل ماكرون، ساحة اللوفر للاحتفال بفوزه، قيل إنه كان يريد الاحتفال في ساحة برج إيفل لكن الشرطة لم توافق لأسباب غير معروفة، فوقع الاختيار على مكان لا يقل رمزية عن الأول. في هذه الساحة يقع متحف اللوفر الأشهر بين المتاحف الدولية، والساحة امتداد لحديقة التويلري التي كانت تضم في العهد الملكي قصر التويلري الذي أمضى فيه لويس السادس عشر، وزوجته ماري انطوانت، آخر أيامهما قبل أن يقطع الثوار الجمهوريون رأسيهما في بدايات الثورة. وفي خط الرموز التي يضمها المكان، نجد آثار الثورة العمالية التي شهدتها باريس بعد هزيمة حرب العام 1870، وقد أتت على هذا القصر، وحرقته، فلم يبق منه إلا الحدائق التي تنتهي هي الأخرى في ساحة الكونكورد الشهيرة، وفيها حصدت المقصلة الفرنسية عشرات الألوف من رؤوس النظام السابق، فضلاً عن رؤوس الثوريين أنفسهم.. أما الرمز الأخير فيتمثل في الهرم الزجاجي الفرعوني الذي نصبه الرئيس الراحل فرانسوا ميتران في ساحة اللوفر، وقد بدا ليلة أمس الأول منتصباً في خلفية المنصة التي تحدث منها الرئيس ماكرون إلى ناخبيه، ليعكس دور الفرنسيين منذ بونابرت الأول في تظهير الحضارة الفرعونية، وفي تقديمها إلى العالم بوصفها إرثاً من ميراث العظمة الإمبراطورية التي تدغدغ أحلام المعاصرين، وتشدهم نحو ماض كانوا يصنعون خلاله تاريخ الأمم.
يوحي ما سبق أن اختيار المكان ليس عفوياً، أو اعتباطياً، فقد أراد ماكرون من خلاله قطع الطريق على اليمين المتطرف الذي تمثله مارين لوبان، وبالتالي القول لها «أنت لا تحتكرين الهوية القومية والإرث الوطني الفرنسي»، لكنه في الوقت عينه أراد دمج المعنى الوطني لالتزامه السياسي بالمعنى الأوروبي، معتبراً أن الأول لا يتعارض مع الثاني، لذا نراه بعد إعلان النتائج متقدماً نحو منصة الخطابة في ساحة اللوفر على وقع النشيد القومي الأوروبي المستمد من خاتمة سيمفونية بيتهوفن التاسعة والمعروفة باسم «نشيد الفرح».
اصطفاف المعاني الرمزية في هذه المناسبة ليس معزولاً عن تكوين ماكرون الثقافي، فهو معروف بحبه للمسرح، بل يمكن القول إن المسرح مرتبط مباشرة بحياته العاطفية، ذلك أن زوجته بريجيت ماكرون كانت تدير تجارب مسرحية عندما تعرف إليها تلميذاً، وكان يرى نفسه، بحسب زملائه، في دور البطولة في التجارب التي تعرضها.
وتجدر الإشارة إلى رمز آخر ورد في كلمته الاحتفالية، إذ أكد أن العالم يشهد تصدياً لأفكار التنوير، وأن على بلاده، وعلى أوروبا أن تحمي هذه الأفكار التي تعد بنظره شرطاً لمستقبل مشرق في مواجهة ظلام القرون الوسطى.
رغم ذلك، يبدو أن بين الرموز على مسرح المناسبة الانتخابية والوقائع القاهرة مسافة صعبة، على الرئيس الجديد أن يجتازها بطريقة ميسرة، إن أراد لبرنامجه أن يدخل حيز التطبيق، وأن يفضي إلى تغيير الطبقة السياسية في فرنسا، كما صرح مراراً.
أهم هذه الوقائع يتصل بالجسم الانتخابي، فالرهان معقود على البرلمان المقبل الذي ينبثق من انتخابات يونيو/حزيران القادم، فهل يفوز ماكرون بالأغلبية التشريعية استناداً إلى شعبيته الراهنة، أم يفاجئه الناخبون بخيار آخر؟ الجواب عن السؤال ليس صعباً بالاستناد إلى تجارب الانتخابات النيابية السابقة، فمن المعروف أن الفرنسيين تعودوا على منح الرؤساء الذين يختارونهم وسائل الحكم، وأولاها الأغلبية في «الجمعية الوطنية»، وعليه قد يحصل الرئيس الجديد على الأغلبية النيابية إذا ما استجاب الناخبون لندائه، خصوصاً أن منافسيه ينتمون إلى اليمين المتشدد، واليسار الراديكالي، وهما لا يجتمعان ولا يأتلفان، الأمر الذي يجعل موقع الوسط فارغاً يمكن أن تشغله أغلبية نيايبة مهمة تتيح تغطية مشروع ماكرون الإصلاحي.
وحتى يتم له ذلك، لا بد من توفر جسم تمثيلي متجانس يتمتع بثقافة التعاون والائتلاف، ونحن نعرف أن المرشحين على لوائحه ينتمون بأكثريتهم الساحقة إلى تيار الوسط، والى الجناح الاشتراكي الديمقراطي في الحزب الاشتراكي الفرنسي، كما تضم قوائم المرشحين شخصيات يمينية وديغولية معتدلة، والشرط الوحيد لاجتماع هؤلاء هو موافقتهم على مشروع الرئيس الإصلاحي، بعيداً عن الأيديولوجيات الحزبية. هذا الشرط ليس صعباً للغاية إذا ما توفرت النية الصادقة لدى المعنيين، وهو أمر ليس مؤكداً دائماً لأن التشريعات في فرنسا تخضع في دوائر معينة لاعتبارات محلية، أكثر منها وطنية، ما يعني أن الأغلبية الحاكمة قد لا تتميز بالانسجام التام المأمول، وإن وقع ذلك سيكون على الرئيس المنتخب أن يتفادى أزمة الحكم عبر تشكيل حكومة توافق من المتناقضين إلى وقت يتيح له حل الجمعية الوطنية والعمل على انتخاب حكومة متجانسة من غير الحزبيين السابقين، وفي هذه الحال سيعمل على تهميش القوى السياسية التقليدية، وتجديد الطبقة الحاكمة، فيما يشبه الثورة البيضاء.
وإذا كانت الأغلبية الحاكمة تطرح مشكلة معقدة إلى حد ما، فإن تطبيق برنامج ماكرون سيستدعي مواجهات مع المتضررين قد تصل إلى الشارع، وهنا من الصعب التكهن مسبقاً بنتائجها. تبقى نقطة أخيرة متصلة بالسياسة الخارجية، وهنا يمكن القول إن برنامج ماكرون لا يختلف كثيراً غن سياسات الرئيس فرانسوا هولاند الخارجية، مع فارق إضافي هو أن العلاقات الفرنسية مع إدارة ترامب ليست ميسرة، لكون الرئيس الأمريكي كثير الارتجال، ويشيع الخوف في مواقفه المفاجئة في أكثر من قضية.
كائناً ما كان سيناريو ما بعد الانتخابات التشريعية سيكون على الرئيس الجديد أن يتفادى حركات الاحتشاد في الشارع، ففي هذه الحالة، وفيها وحدها قد يخرج المارد من القمم ولا يعود إليه أبداً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"