صندوق أحمد سعيد

01:18 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبدالله السناوي

ظاهرته لا مثيل لها في التاريخ العربي الحديث كله. صعد بتأثيره إلى حيث لم يصعد إعلامي آخر. وظُلمت أدواره كما لم تظلم أي أدوار أخرى. وهو يدخل عامه التسعين تكاد حجب النسيان تطوي ذكره.

هذه مأساة حقيقية، فالأمم التي تنكر تاريخها يصعب أن تضع أقدامها في أي مستقبل.
أكثر الأسئلة جوهرية في ما يتعرض له العالم العربي الآن من هزائم مروعة:
كيف انهار كل معنى وتقوض كل أمل؟

هو أبرز أصوات الاستقلال الوطني في العالم العربي من أوائل الخمسينات حتى نكسة (1967).

كان الصوت مسموعاً وإلهامه نافذاً. خاض معركة إسقاط حلف بغداد عام (1955) الذي استهدف ملء الفراغ في المنطقة بعد تراجع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.
كانت المعركة ضارية بين القوة الأمريكية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية وحركات التحرير الوطني التي ما زالت في مهدها.

وخاض حرب السويس عام (1956) حاشداً العالم العربي وراء مصر المقاتلة.

كانت معركة أخرى على مصير الإرادة الوطنية المستقلة بعد تأميم قناة السويس.
ارتفع صوته في عام (1958) بأحلام الوحدة المصرية - السورية والتطلع إلى دولة عربية واحدة.
طوال سنوات التحدي حتى انكسار هزيمة (1967) تصدر كل معركة من المشرق العربي في العراق وسوريا ولبنان إلى مغربه في الجزائر والمغرب وتونس إلى الخليج العربي واليمن.
الثورة الجزائرية درة التاج في معاركه كلها. لا يمكن كتابة تاريخ ثورة المليون ونصف المليون شهيد من دون التوقف عند دوره فيها.

في أول نوفمبر/تشرين الثاني (1954) قرأ بصوته البيان الأول للثورة عبر أثير «صوت العرب»، وأشرف كاملاً على إعداد النشيد الوطني الجزائري.

ربطته علاقة صداقة عميقة مع الرجل الذي التقاه لأول مرة باسم «مسعود مزياني» امتدت حتى نهاية العمر. كان «مزياني» هو الاسم الحركي للزعيم الجزائري «أحمد بن بيللا».
تابع بالتفاصيل قصة الثورة الجزائرية، وكتب شهادته لكنه لم ينشرها حتى الآن. أثناء فتنة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر سألته أن يكتب في الموضوع لجريدة «العربي». قال: «أريد أن أعرف موقفك».
رددت: «أنا قومي عربي». رغم ما يربطنا من حوار ومودة فإن الأجواء العامة دعته إلى السؤال. كان كل شيء هستيرياً وأغلب ما يكتب على ورق أو يبث في فضاء عاراً حقيقياً. في لحظات الفتنة وجد نفسه أمام سؤال سياسي وإنساني عما إذا كانت الذاكرة مُحيت. في دراسته اللافتة لما طرأ على المجتمع الجزائري من تحولات في القيم والسلوك بأثر سنوات الثورة أشار المفكر الفرنسي «فرانس فانون» إلى دور «صوت العرب» في إلهام فكرة الاستقلال. كان الجزائري العادي يشتري جهاز الراديو ليستمع إلى صوته وهو يردد كلمة «الاستقلال» بينما الأفئدة ترتجف. في كل مكان بالعالم العربي سادت الروح نفسها، وأطلق على جهاز الراديو «صندوق أحمد سعيد».
«‬أحمد سعيد» لا غيره. ‬في عام (1967) حمّل بما لا يحتمل من مسؤولية النكسة العسكرية. كانت الهزيمة فادحة والبيانات العسكرية كاذبة. لم يكن هو الذي كتبها، فقد تلقاها من القيادة العسكرية في ذلك الوقت. ولم يكن بوسعه تجاهلها شأن أي محطات تلفزيونية أو إذاعية أخرى. لكن كل السهام صوبت إليه وحده. في سبتمبر/أيول (1967) خرج من الإذاعة التي أسسها عام (1953) وتوارى إلى الظل.

خلفه على مقعده «محمد عروق». لم يكن الهدف تغيير الرجال بقدر تغيير الدفة من التعبئة إلى التوعية، فقد اختلفت طبيعة المعارك. عند انقلاب السياسات على عصر «جمال عبد الناصر» استهدفت تجربة «أحمد سعيد» بضراوة. شاعت روح السخرية من اللحن المميز الذي ارتبطت به «صوت العرب» «أمجاد يا عرب أمجاد.. في بلدنا كرام أسياد». لم تستهدف السخرية الرجل وتجربته بقدر ما استهدفت عصر الأحلام الكبرى التي انكسرت.

في عزلته الطويلة التي امتدت نحو نصف قرن كان يستعيد من وقت لآخر بيتي شعر الشاعر العراقي الكبير «الجواهري»:
«‬إنا رئات في حنايا أمة‬‬‬ راحت بنا تتنفس الصعداء

لم نأت بِدعا في البيان وإنما

كنا بما حلمت به أصداء»

المفارقات تبدو حادة اليوم بين ما بشر به وما وصلنا إليه. غير أن هذه ليست مسؤوليته، فهو لم يخترع مشروع التحرير الوطني ولا نداءات الوحدة العربية. كان العالم العربي يموج بهذه الأفكار ومستعد للتضحية في سبيلها. هو ابن مرحلة الصعود الكبير وصوتها الأبرز. شغل تأثيره مراكز أبحاث وأجهزة استخبارات على ما تدل الوثائق الغربية المتاحة الآن. أثناء حرب السويس قصفت الطائرات محطات إرسال «صوت العرب» في «أبي زعبل» شمال شرق القاهرة لإسكاتها. وحين فشلت الغارات في إسكات صوته، حاولت غارات من نوع آخر تشويه صورته. غير أن التاريخ سوف يتوقف طويلاً أمام تجربته التي لا مثيل لتأثيرها بامتداد العالم العربي كله. عندما كانت ساعة جامعتها العريقة تدق السادسة من مساء السبت (٤) يوليو/تموز (1953) بدأ بث «صوت العرب» من القاهرة.

كان مديرها ومذيعها الوحيد قبل أن تنضم إليه نخبة من أفضل الإذاعيين المصريين من بينهم «نادية توفيق» و«محمد عروق» و«بهاء طاهر» و«السيد الغضبان» و«أمين بسيوني» و«محمد الخولي» و«فاروق خورشيد» و«ديمتري لوقا». لم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين من عمره عندما بدأت تجربته.

السن المبكرة في تقلد المناصب العامة من طبيعة ثورة يوليو، فقد كان زعيمها «جمال عبد الناصر» في منتصف الثلاثينات. المثير أن تفكير يوليو في محطة إذاعية تخاطب العالم العربي وتتبنى قضاياه استبق إعلان توجهها القومي.
لا يولد شيء من فراغ، فقد كان «عبد الناصر» متأثرا بتجربة الحرب في فلسطين (1948)، وانطوت فلسفة الثورة التي صاغها «محمد حسنين هيكل» على إدراك مبكر لأولوية الدائرة العربية في السياسة الخارجية المصرية. ومن الأسباب الجوهرية لنجاح تجربته وضوح الأهداف القومية وسقف الحرية المرتفع على ما يقول بنفسه. في 25 فبراير/شباط 1965، قال الرئيس «عبد الناصر» في خطاب مفتوح إنه لا يوافق «أحمد سعيد» في أمور كثيرة يتحدث فيها، لكنه يمتنع عن أي تدخل، فالتدخل «بيموت صوت العرب وبيضيع قيمة صوت العرب». حتى إعلام التعبئة يحتاج إلى الحرية. الإعلام يفقد تأثيره عندما يخسر حريته. دراسة التجربة بعمق من مقتضيات رد اعتبار الإعلام المصري الذي تدهور بصورة غير مسبوقة. للنجاح أسبابه وللفشل أسباب أخرى. وهو يخطو إلى تسعينيته ربما جال بخاطره أن التاريخ سوف ينصفه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"