سقوط أحمق في حقل ألغام مكشوف

01:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

يدور في فرنسا منذ أسبوعين نقاش محموم حول الإجراءات الفعالة التي يمكن أن تردع الأعمال الإرهابية ومن بينها قانون نزع الجنسية عن الفرنسيين من أصول عربية من الذين ينفذون أعمالاً إرهابية أو الذين تدينهم المحاكم بتهمة تنفيذ وتخطيط هذه الأعمال.
جدير بالذكر أن هذا الاقتراح كانت تتبناه بقوة «الجبهة الوطنية» المتطرفة التي تتفوه بخطاب كريه ضد الأجانب وتضعهم «كبش محرقة» تجاه كل الصعوبات التي تعانيها فرنسا، وأشير إلى شعار واحد من شعارات الجبهة يقول «أربعة ملايين عاطل عن العمل في فرنسا يساوون أربعة ملايين مهاجر.. طرد المهاجرين يساوي حل مشكلة البطالة». ويمكن تعميم هذا التبسيط الديماغوجي في عرف الجبهة على مجمل المشاكل، فطرد المهاجرين يعني أيضاً حل مشكلة الأمن والحفاظ على الهوية الوطنية.. إلخ.
ما كان لهذا الاقتراح أن يتصدر واجهة النقاش لولا التحريض العشوائي الذي انتشر بعد العمليات الإرهابية الأخيرة، حيث تبين أن 90 بالمئة من الفرنسيين يؤيدون سحب الجنسية من الأفراد الذين يرتكبون أعمالاً إرهابية أو الذين يخططون لتنفيذها، وقد شجع هذا الاستطلاع رئيس الجمهورية على طرح المشروع للنقاش العام تمهيداً لإقراره.
كشفت بوادر النقاش الأولى عن انقسام كبير في صفوف اليسار، وبخاصة في أوساط الحزب الحاكم لا بل في الحكومة نفسها حيث عارضته منذ اللحظة الأولى كريستيان توبيرا وزيرة العدل وهي المعنية مباشرة بالتعديل الدستوري، ولم يحظ بإجماع في صفوف اليمين المعتدل وتيار الوسط وبدأ التراجع حوله في صفوف الرأي العام، لكن نسبة التأييد ظلت مرتفعة ما يعني أن الحكومة التي يترتب عليها طرحه والدفاع عنه في مجلسي النواب والشيوخ ينبغي أن تكون موحدة، كما ينبغي أن تضمن أغلبية في مجلس الشيوخ قبل طرحه، الأمر الذي تحوم حوله شكوك كثيرة، ذلك أن الأغلبية اليسارية متعذرة بسبب الانقسام حول المبدأ ويمكن لأغلبية مختلطة من اليمين واليسار أن تسيء لرئيس الجمهورية الذي جاء إلى الحكم بأصوات يسارية ومن أجل برنامج يساري وبدعم من اليسار، فإذا به يلجأ إلى اليمين وينحرف عن قاعدته وهو أمر سيئ للغاية بالنسبة لترشيحه لولاية ثانية كما يلاحظ من تصريحات المحيطين به.
يفصح ما سبق عن تعثر قد يؤدي إذا ما اتسع إلى التخلي عن المشروع أو تجريده من محتواه الإثني وإن تم التجريد فإن مشروع التعديل الدستوري يفقد أثره الأصلي وهو عقاب «البيئة» التي يأتي منها الإرهاب ويصبح مضراً بمن طرحه وليس بالإرهاب والإرهابيين.
والراهن أن المشروع يقف اليوم على مفرق طرق بسبب تعادل الأسباب الموجبة مع الأسباب السالبة التي تقف خلف المشروع. أما الأسباب الموجبة فيرى أصحابها أن الخوف من فقدان الجنسية يشكل ضغطاً على البيئة التي ينتمي اليها الإرهابيون فتصبح مصلحة الأهل وسائر المؤسسات المحلية شريكاً في حرب نفسية ضد الإرهاب وبالتالي يقل أو ينتفي عدد الذين يغامرون بتنفيذ أعمال إرهابية.. ومن جهة ثانية يمكن لمثل هذا المشروع أن يعزز العصبية الوطنية ويعيد الروح إلى القيم القومية التي أصابها إهمال كبير منذ أن كفت فرنسا عن الاستعمار المباشر أو المشاركة في حروب خارجية ومنذ ان أصبح أعداؤها الكبار في أوروبا شركاء في مصير واحد هو المشروع الأوروبي. ويمكن لمثل هذا المشروع أن يحفز المهاجر الجديد على احترام الهوية الفرنسية والتخلي تدريجياً عن القيم التي يحتفظ بها من مجتمعه الأصلي.
من جهة ثانية، تبدو الأسباب السلبية أقوى حججاً ومنفعة ومن بينها أن الإرهابي الذي قرر التضحية بحياته من أجل هدف ديني أو سياسي لا يعبأ بالجنسية التي تهم الحي فقط وليس الميت، خصوصاً أن مشروع القانون المطروح للنقاش لا يتحدث عن سحب الجنسية من أولاد المتهم أو زوجته أو عائلته، والسبب الثاني يتصل بجوهر المواطنة نفسها، ذلك أن مشروع القانون ينص على حرمان الإرهابي من جنسيته الفرنسية إذا كان يحمل جنسية أخرى ويعفيه من هذا الإجراء إن كان لا يحمل غير الجنسية الفرنسية، وفي هذه الحالة تكون فرنسا قد أسست لتمييز خطر في جنسية مواطنيها بين فئتين فئة الجنسية الأولى غير القابلة للنزع والمشكلة غالباً من الأوروبيين الأصليين وفئة الجنسية الثانية التي يمكن أن تسحب منهم الجنسية ومن غير المستبعد أن تؤسس هذه السابقة لو تمت إلى تمييز عنصري لا يشبه شعارات الحرية والإخاء والمساواة التي رفعتها الثورة الجمهورية الفرنسية عام 1789.
والتمييز المقصود لا يطال شريحة واسعة من الجنسيات فهو لا يعني الفرنسيين من ذوي الأصول الآسيوية والإفريقية والأمريكية غير العربية، ولا يعني كل العرب وإنما فريق منهم يعود بأصوله إلى شمال إفريقيا، وفي هذه الحالة يمكن ان ينظر إلى أحياء المغاربة في الضواحي بوصفها معازل خطرة تنتج إرهاباً وإرهابيين، ويمكن أن ينظر إلى العربي الذي يسكن مبنى مختلطاً بوصفه إرهابياً حتى يثبت العكس أو فلنقل إرهابياً محتملاً وفي هذه الحالة سيكون على العربي المرشح بحسب القانون لأن تنزع جنسيته أن يواجه صعوبات كبيرة في الحصول على سكن ووظيفة وحتى على عمل حر، فمن يثق بتاجر يمكن أن يكون إرهابياً بحسب القانون بل الدستور.
من المؤسف القول إن مثل هذه الحال كانت في تاريخ فرنسا حال قسم من اليهود الذين سلمتهم السلطات الفرنسية التابعة للنازية إلى سلطات الاحتلال الهتلري وكانت تلك حال الضابط الفرنسي اليهودي الأصل الفريد دريفوس الذي اتهم بالتخابر مع العدو استنادا إلى هويته الدينية وليس إلى قرائن ثابتة، ذلك أن اليهودي ما كان في عرف الفرنسي غير اليهودي مكتمل الجنسية والمواطنة وبالتالي كان يمكن أن يرتكب خيانة لا يمكن للفرنسي الآخر أن يرتكبها... إن هذا اليقين الإثني أو العرقي هو الذي يبعث الخوف من مشروع التعديل الدستوري ويعزز التحفظ من السقوط في هاوية عنصرية بلا قرار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"