استئناف الحضارة على طريق دبي

03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. نسيم الخوري

أعجبتني جدّاً فكرة «استئناف الحضارة في العالم العربي، لأنّ الحضارة لا تموت عندما نربطها بالمستقبل». أطلقها العقل المسكون بالموجات والأفكار الإيجابية صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي. الحديث كان ضمن القمة العالمية للحكومات. يندرج الاستئناف كمحطّة إيجابية لا تلغي الماضي قطعاً، لكنها تحترم التوقفّ، والتعثّر الذي يمكن أن تقع فيه الحضارة بهدف استيعاب المحنة، والحكمة. نصادف الاستئناف كمصطلح قانوني في أحكام الدرجة الابتدائية عندما تفتقد المحكمة للعدالة، ويذهب الأمر إلى التمييز في حال فقدان العدالة في الاستئناف، لكنّه مصطلح جاء استعماله موفّقاً، وغنيّاً في دوران الفكر حول مصطلحات سلبيّة تبدأ بالانقطاع، أو الانحطاط، أو السقوط، أو الانهيار، ولا تتوقف عند الانتحار الحضاري.
استهلكت عقود من التعليم والأبحاث الجامعية في الحفر عن تجديد الحضارة العربيّة واستنطاقها بما يجعلها قابلة للحياة والحوار والانطلاق. قد يأخذنا التأمّل والانشغال بتجديد الفكر العربي، وإضاءة دروب التنوير والخروج من هذا الانقطاع والتهديم والتشويه الحاصل لحضارتنا العربيّة، ولأنساق القيم المجتمعية والدينية من حولنا، إلى حدود وقوعنا بالنكوص.
وها قد وضع حاكم دبي يده على لؤلؤة ثمينة تقول إنّ الحضارات قد تتجمّد وتتوقف، لكنها تتابع المسير، خصوصاً إذا كان الهمّ منصبّاً على الحكومات العربيّة في السير عبر استراتيجيات التغيير لئلاّ يأتي التغيير مفروضاً من الغير. يفترض هذا التوجه الإيجابي لا الانكماشي الغالب، الإيمان بأنّ «المنطقة العربيّة هي مهد الحضارة الإنسانية وإنسانها هو الذي يصنع الحضارات والاقتصاد والمال، وإذا نجح الإنسان في بناء حضارة في الماضي، فهو قادر من جديد على استئنافها... لأنّ أكبر إنجاز يتمثّل في صناعة الإنسان»... الإنسان الإداري.
دلّوني عمّن يقول بصناعة الإنسان في وطننا العربي؟ تحيّة لحاكم يخاطب العرب بقوله: «أقول لهم اتركوا خطابات السبعينات، واتركوا حلماً قديماً وانفتحوا على العالم. لماذا الانفتاح على الجيران فقط، في ظل سوق عالمية واحدة أنهت الحدود. نصيحتي أن توقفوا الحديث عن السوق العربية المشتركة؛ هذا حلم قديم، ووزراء التجارة ما زالوا يحلمون بالسوق العربية المشتركة. اليوم العالم تغير وأصبح سوقاً عالمية مشتركة».
ويرشدنا تاريخ الحضارات إذ نقرأه أفقيّاً، الى تعيين غير نهائي لنقاط، أو ملامح التفاعل الحتمي والطبيعي بين الشعوب بثقافاتها المتنوّعة. هذه الملامح خاضعة بالطبع للتقارب الجغرافي، أو تطويع الجغرافيا، وأساليب التواصل والغلبة التي كانت، وما زالت تشكّل، بالنسبة لطرائق تفكيرنا، نتوءات، وحواجز، وأحداثاً مؤلمة بين الشعوب، يتغلّب فيها الأقوى بعدما تؤدّي التفاعلات إلى الحروب الهائلة والإخضاع. وقد تأخذنا النظرة العمودية أحياناً إلى الكشف عن خصوصيّات حضارية باهرة، كما نموذج دبي، الذي يحتاج لأن يغوص فيه علماء الإنتروبولوجيا، ولا يستطيع باحث أن يتجاهله عندما يغوص بحثاً عن فلسفة الخروج من أعباء الانقطاعات الحضارية. يساعد التفاعل في بث الحيوية في الحضارات الواقفة، كما التفاعل بين حضارتي مصر والهند مع حضارة بلاد ما بين النهرين، أو التقارب والتداخل والنقل بين حضارات أوروبا وآسيا وحضارات الصين والهند. المهم، أنّ هذا التفاعل، كان يثير على الدوام، مخيّلة المفكّرين إلى حدود الوهم بأنّ الإنسانية تتّجه نحو حضارة واحدة، وقد يساعد الاتّصال بين الشعوب في التعجيل من هذا الحلم.
ويمكن النظرة إلى مقياس النموّ بكونه التقدُّم في سبيل التحقيق الذاتيّ. ويكون ذلك عن طريق المُبدعين من الأفراد، أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة المُلهَمين الذين يعملون 48 ساعة وأكثر في ال24 ويتأمّلون ويحلمون، فتستجيب لهم الأكثرية عن طريق المُحاكاة الآليَة التي تمثل الطريقة الغالبة في عملية الانقياد الاجتماعي نحو مشاهد التطوير. وتقود هذه المحاكاة في الجماعة البدائية إلى حركة سلفية تنزع إلى محاكاة القدماء، بينما هي في المجتمعات الحضارية النامية حركة تقدمية تؤدي إلى محاكاة الطليعة الخلاقة.
لا يمكن قياس المدى الذي ينطبق على هذه المقاربات من أجل فهم تعامل العرب والمسلمين مع الغرب، لكنّ السؤال الذي لم يتغيّر هو: هل إنّ العودة الدائمة إلى إحياء قوّة الدين قادرة دوماً على ترميم هول الصدمات الناتجة عن الشعور بالتخلّف عن الآخر واللجوء إلى النكوص في الماضي؟
هنا تبرز كيفية تطوير الحضارة، عبر إبعاد الدين عن السياسة، وتبرز قيمة الوقت وقيمه The time is miney في قاموس دبي، والزمان هو مقياس الحركة لا يتوقّف في البحث عن التطوير «لأن الوقت كالنهر يذهب ولا يعود»، وبالتالي ينصحنا سموّه، بالمحافظة على الوقت والإنجاز الذي يعني دوام التعلّم والبحث عن الشباب والشابات، حيث الإدارة قيادة يفترض نجاحها مثلّث الخبرة والمعرفة بمعنى التخطيط والشجاعة، فإن فقدنا أحد الأضلاع الثلاثة يقع الفساد، وتختلّ المجتمعات، والفساد في الحكومات والدول سبب التخلف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"