"النصرة" تقصف "اتفاق سوتشي" بالكيماوي

03:26 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *
 
اللافت للنظر، أن تركيا لم تحاول نفي استخدام الكيماوي، ومن منطقة خاضعة لسيطرة القوات التركية، كما أنها لم تبد أي اعتراض على القصف المدفعي والصاروخي المكثف، الذي قامت به القوات الحكومية السورية ضد المصادر المتوقعة للضربة الكيماوية، ولا القصف الجوي، الذي قامت به القوات الروسية على تلك المواقع.. وهي مواقع خاضعة لسيطرة أنقرة، وتحتوي على نقاط مراقبة تركية قوية. 
والحقيقة أنه لم يكن بوسع تركيا أن تعترض أو تشكو.. فوفقاً ل«اتفاق سوتشي»؛ كان من المفروض أن يتم سحب الأسلحة الثقيلة من هذه المناطق منذ (10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي)، بعمق (15 إلى 20 )كم، وبامتداد حدود منطقة «خفض التوتر» في إدلب. كما كان من المفروض أن يتم إخلاء المناطق العازلة؛ من مقاتلي المنظمات الإرهابية: «النصرة» و«داعش»، و«الجيش الإسلامي التركستاني» و«حراس الدين»، وغيرها من المنظمات المرتبطة ب«القاعدة» و«داعش» بحلول يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأن يبدأ تسيير دوريات (روسية  تركية) مشتركة؛ لمراقبة تنفيذ الاتفاق.. غير أن شيئاً من ذلك كله لم يحدث حتى الآن.. وهو ما دفع وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو لمصارحة نظيره التركي، بأن الأوضاع في إدلب «تتطلب تحركاً مشتركاً»؛ لفرض الانسحاب على المنظمات الإرهابية، وإجبارها على احترام الهدنة، والكف عن مهاجمة القوات الحكومية، والمناطق الآهلة بالسكان.
 
ومعروف أيضاً أن الرئيس الروسي بوتين قد اجتمع بنظيره التركي أردوغان على هامش «قمة العشرين» في بوينس آيرس، وطالبه باتخاذ إجراءات أكثر فاعلية؛ لتنفيذ «اتفاق سوتشي».
 
ومن المهم هنا، أن نلاحظ أن المصادر الروسية لم تكف، طوال الفترة الماضية، عن التحذير من امتلاك المنظمات الإرهابية، للأسلحة الكيماوية من مختلف الأنواع، وخاصة «الكلور»، ومن دخول خبراء أجانب؛ لصنع الذخائر الكيماوية، وتركيبها على الصواريخ والمدفعية، ونشر التقارير المخابراتية عن دخول حاويات المواد الكيماوية إلى إدلب، وتحريكها في المنطقة من مكان إلى آخر.
 
وواضح أن أجهزة مخابرات الدول الغربية الكبرى لديها تقارير؛ تؤكد ما يقوله الروس؛ بدليل أن «قمة إسطنبول» الرباعية التي عقدت في 27 أكتوبر الماضي، وبحضور ميركل وماكرون قد حذّرت «مختلف الأطراف» من الإقدام على استخدام الأسلحة الكيماوية؛ وهو ما يشير بوضوح إلى المنظمات الإرهابية؛ بعد أن كانت التحذيرات والتهديدات الغربية، تتجه كلها إلى دمشق وحدها. وغني عن البيان، أن دخول الأسلحة الكيماوية، والخبراء الأجانب (وأفراد «الخوذ البيضاء»..) إلى إدلب لم يكن يمكن أن يتم بدون علم المخابرات التركية!! إن لم يكن بمساعدتها.
 
 والواقع أن كل هذه الحقائق؛ تشير إلى أن تركيا لم تكن جادة تماماً  إذا كانت جادة أصلاً  في نية الالتزام، بتنفيذ «اتفاق سوتشي»، وأنها كانت- منذ البداية- تنوي المراوغة في التنفيذ، وفي الالتزام بالجدول الزمني، وفي الكثير من التفاصيل؛ وهذا ما يوضحه تماماً مسار «تنفيذ» اتفاق سوتشي، فلا الأسلحة الثقيلة تم سحبها من المنطقة العازلة (15-20)كم، ولا الإرهابيون تم إخراجهم منها، بالرغم من مرور أكثر من شهر ونصف الشهر على الموعد المحدد.. ولا «النصرة» وأخواتها تم نزع سلاحهم الثقيل.. ولا تمت خطوة جدية واحدة نحو «الفصل» بين تلك المنظمات والفصائل المسلحة الأخرى التابعة لتركيا بأشكال أكثر صراحة ومباشرة «كالجيش الحر وغيره»، ولا الطريقان الدوليان الواصلان بين حلب وكل من اللاذقية وحماة يبدو ما يشير إلى أنه سيتم افتتاحهما قبل نهاية ديسمبر/كانون الأول!! ولا حتى وقف إطلاق النار من المنطقة العازلة تحقق؛ بل زاد عليه استخدام السلاح الكيماوي ضد حلب!! كما عززت تركيا بشدة نقاط المراقبة التابعة لها في إدلب.
 
الأكثر من ذلك، يمكننا أن نقول: إن روسيا كانت تدرك ذلك كله، وتتوقعه بصورة أو بأخرى، وأن توقيع «اتفاق سوتشي» كان الهدف منه؛ هو «نزع فتيل المواجهة الشاملة»، التي نشأت حول إدلب نفسها (100 ألف مقاتل بين إرهابي و«مسلح» تابع لتركيا) وفي شرق المتوسط بين الأسطول الروسي والسفن العسكرية الغربية، وقنبلة «الكيماوي» المعلقة بإصرار غربي وأضح فوق رأس دمشق.. علماً بأن أردوغان نفسه لم يكن من المستبعد أن ينضم إلى المعسكر الغربي في حالة نشوب مواجهة شاملة!! وبالتالي كان على بوتين أن يخفض سقف طموحاته في إدلب، في انتظار تحقيقها في وقت لاحق، وبأشكال مختلفة لا تصل إلى درجة المواجهة الشاملة مع الغرب؛ ومن خلال مواصلة الضغوط على أردوغان، وربما كان المكسب «الصلب» الوحيد، الذي حصل عليه بوتين؛ هو وقف هجمات الطائرات بدون طيار على قاعدة «حميميم»، التي كانت فاشلة كلها؛ لكنها كانت تفرض على روسيا حالة تعبئة باهظة الكُلفة لوسائل دفاعها الجوي.. وبديهي أن هذا لم يكن بعيداً عن أصابع أردوغان.
 
وهكذا فإن روسيا يتعين عليها إبداء المزيد من الصبر وطول النفس مع «الشريك المخالف» أو «الصديق اللدود» أردوغان.. مع مواصلة حصار إدلب عسكرياً، والرد بقوة شديدة.. «هي وقوات دمشق وحلفاؤها» على أي اعتداء من جانب الفصائل الإرهابية، وممارسة الضغوط على أردوغان؛ استناداً إلى نصوص الاتفاقية.
 
لكن المؤكد؛ أن موسكو لن تقوم أبداً على «إعلان وفاة اتفاق إدلب» في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة، مهما راوغ أردوغان وتلاعب؛ بل ستواصل اعتماد السياسة، التي شرحناها، مع بناء اعتماد تركي أكبر عليها؛ من خلال الغاز والسلاح والتجارة والسياحة.. إلخ.
 
ومن ناحية أخرى، فإن استمرار جهود التسوية السياسية، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين والنازحين، والتحسن في علاقة دمشق بعدد من الدول العربية المهمة  كلها عوامل مهمة في التعزيز التدريجي «لشرعية» النظام السوري؛ من شأنها أن تخلق ظروفاً ضاغطة أكثر على الوجود التركي في إدلب وغيرها من مناطق الشمال السوري.
 
أما أردوغان، فإن الأمر الثابت الوحيد بالنسبة له  وللغالبية الساحقة من الساسة الأتراك  هو الطموحات الإمبراطورية، والرغبة في التوسع في الشمال السوري؛ بحيث يقوم بضم أكبر جزء ممكن منه؛ بدءاً من إدلب وشمالي محافظة حلب مروراً بالرقة ووصولاً إلى الحسكة شرقاً؛ بذريعة مواجهة «الخطر الكردي»..قد يطول وقت هذه المراوغة؛ لكن الفشل هو مصيرها.. فلن يقبل العالم بوجود قنبلة موقوتة وبؤرة شديدة الخطورة للإرهاب في إدلب..
 
قصف «جبهة تحرير الشام»؛ (النصرة سابقاً) لعدد من الأحياء السكنية في حلب؛ سلّط الضوء بقوة على «اتفاق سوتشي» بشأن إدلب، وأثار الأسئلة مجدداً؛ حول فاعلية الاتفاق، ومدى قابليته للاستمرار. القصف الذي أصاب 107 أشخاص، جاء من «المنطقة منزوعة السلاح»، التي يبلغ عمقها حسب الاتفاق- (15  20)كم، وصحيح أن انتهاك الفصائل الإرهابية للاتفاق، قد تكرر كثيراً منذ توقيعه في «17 سبتمبر/أيلول الماضي».. إلا أن هذه هي المرة الأولى، التي يجري فيها الحديث عن استخدام السلاح الكيماوي؛ الأمر الذي يضفي على الاعتداء الأخير بالذات خطورة خاصة.
* كاتب ومحلل سياسي. خبير في الشؤون الروسية
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"