المدن.. وجوه متغيرة في «منابت العشق»

00:19 صباحا
قراءة 5 دقائق
القاهرة: أحمد سراج

أربعة رفاق هم ناجي وسفر وفهد والراوي، يجوبون أربع مدن، الجراح من مدينة، والترياق في أخرى، يبدأ النص بتجمعهم للاستماع إلى عزف موسيقار كبير على الكمنجة في بيت «ناجي»، ثم يتحرك كل منهم صوب أقداره التي تجهز له الفرح والترح في آن؛ فلا تستقيم الحياة لأحدهما رغم ما يبدو من ظروف مواتية، ذلك أن كلاً منهم يحمل «كعب أخيل» في ماضيه، فيظل ينغص عليه حياته، ويظهر في الوقت غير الملائم تماماً، فيسقطه من فوق صهوة جواده.. ذلك بإيجاز ما تتناوله رواية «منابت العشق» للروائي السعودي أحمد الدويحي الصادرة عن دار الانتشار العربي.

أحمد الدويحي روائي وقاص ولد عام 1954م في قرية العسلة أعالي جبال السروات - منطقة الباحة - الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، من أعماله القصصية: (البديل)، و(قالت فجرها)، وله من الروايات: (ريحانة) و(أواني الورد) و(الحدود) و(ثلاثية المكتوب مرة أخرى) و(مدن الدخان) و(وحي الآخرة) و(غيوم امرأة استثنائية) و(منابت العشق).
ناجي.. ابن عضو الإخوان المطرود من مصر أولاً ومن السعودية ثانياً، والعاشق للموسيقى، والعائل المفترض لأسرة تتكون من أم عجوز وأخت في ميعة الصبا، يطارده نزق أبيه رغم انقطاع أخباره تقريبًا عنه، يعيش في كنف عائلة أمه العريقة، وتمنحه جرأة ورثها عن أبيه، وموهبة الموسيقى، وتفتُّح الدولة المؤقت؛ فيوفد لدراسة الموسيقى في القاهرة ثم يصير صحفياً مرموقًا، وزوجاً لابنة قاض كبير.. وينجب من زوجته نورة بنتين؛ ليليان وعهود، ويبدو أنه ينطلق كالصاروخ ليصبح أحد نجوم العالم العربي، أما «سفر» الصديق الثاني فيلتحق بكلية الطب في القاهرة، ويختار له أبوه عيشة ابنة عمه زوجة، ويصحبهما الأب في سفرهما إلى مصر بحجة الفحوصات الطبية، وبهدف أعمق وهو ترتيب معيشة الابن وزوجته، وتمر الحياة سعيدة وينجب الزوجان ابنة جميلة؛ هي جنين، وينجح في دراسته ليعود إلى بلاده بشهادة رفيعة في تخصص مرموق يدعمه ثراء أبيه.
في حادث عبثي يطلق ناجي النار على حميه وابن حميه؛ إذ يدخلان شقته لإحضار احتياجات لابنتيه وزوجته؛ فيفاجآن به نصف عارٍ وبجواره جيتاره؛ فيتسرع حموه بالظن أنه سكران؛ فيكسر الجيتار ويخرج ناجي مسدسه ويطلق عليهما النار، وهو يتلوى من ألم المرض وإرهاق المسكنات التي لا تجد شيئاً، وهكذا يمتد خيط الأسى عن آخره فينفصل الزوجان، ويذهب ناجي إلى حرب الخليج ثم يعود إلى القاهرة، وهناك يموت بمرض خبيثٍ، تاركاً زوجة وثلاثة أبناء، يكون الثالث أحمد جنينًا لحظة الانفصال.
وفي مأساة أشبه بالنكتة السخيفة تدّعي عجوز جنوبية أنها أرضعت كلاً من «سفر» وزوجته «عيشة» ويكون الحكم هو التفريق بينهما؛ فيعاني سفر الأمرين، ويترك الطب ويهرب إلى الفن التشكيلي، لكنّ كل نهاية هي بداية جديدة، حيث يقرر فهد صديق سفر أن يساعده حين علم أنه ذاهب إلى لبنان؛ فيعطيه فهد عنوان أمه للنزول عندها، وهناك يقابل سفر المهندسة ندى فيقعان في الحب ويتزوجان في الرياض.
أمّا فهد فهو ابن لأب كثير الزيجات، لكنّ مشكلته أن أمه لبنانية لم تلبث كثيراً على ذمة والده وعادت إلى لبنان، وقد بقي لفهد وأخته حصة في رغد العيش وأمامهما المستقبل الواسع بعمل فهد في التشريفات، وعمل حصة في أحد البنوك ثم امتلاكها مشروعًا تعليميًّا بأبخس ثمن.
الراوي الذي لا يفصح عن اسمه، ويظل حيادياً، لا يتورط في علاقة، ولا يقترب من الحياة إلّا لينعزل، مكتفياً بألّا يغادر الرياض، وأن يعمل قارئاً لرسائل الصحيفة التي يحتل فيها ناجي مكانه المرموق، وحين تأتيه خديجة أخت ناجي مهيأة مشرعة للحب لا يحاول استمالتها.
تتخلل النص الأحداث الكبرى التي قصمت ظهر العروبة، وعلى رأسها احتلال العراق للكويت، وما جرى وما تبع ذلك من مآسٍ لم تتوقف إلى اليوم، ويتوغل النص في المجتمع السعودي، وبنياته وعلاقاته التي تسيره، وما يعتوره من تغيرات لا تتوقف؛ بناء على التغيرات الضاغطة خارجًا.
لا يميل الكاتب إلى النهايات المحببة للقراء بل يكمل الطريق التراجيدي؛ فبطله الأوفر مساحة في الرواية، هو الأسوأ حظاص بامتياز؛ فابنه الذي ولد ولم يره تتلقفه الجماعات الإرهابية وتظل تغذيه بالتطرف حتى يقبض عليه، وحين يخرج يمد له خاله يد المساعدة، لكنه يخدعه، وبدلاً من أن يسافر لأداء العمرة يذهب للانضمام إلى المتطرفين في سوريا.
«المدن وكأنها الوجوه في خياله، فظهرت القاهرة بنيلها وصخبها وزحمة شوارعها وديعة لينة شفافة في عيني عم سعيد، وظل قلقه وخوفه وهواجسه في مدينة أخرى، يعرف عنه ابنه سفر ذلك بأنه مهما طال سفره والبعاد عنها ففكره فيها، فلا بد من عودة إليها..»، ما أصعب أن تحب مدينة وتجبر على العيش في مدينة أخرى! لكنها الحياة التي تدفع المرء إلى التكيف فلا يعود سفر إلى الرياض ليتزوج منها، بل يتزوج من بلد غير الذي ولد فيه، وغير الذي عاش وزوجتها فيه؛ فتكون لبنان، وتكون ندى.. وقريب من هذا ما فعله ناجي، لكن فهد يختار الانصياع ويتزوج ابنة رئيسه، ويترك أخته لأطماعها، وأطماع «خوية» البدوي الطامع.
ثمة مقارنات بين المدن العربية الواردة في الرواية؛ فالقاهرة رمز للتحرر، فيما تعيش مدن اليمن في فقر وخوف، أمّا بيروت فهي رمز للجمال، وتبقى الرياض مدينة تسبح على بحر من العلاقات السائرة على نهج المدنية ظاهرًا؛ فصحفٌ وقضاء وسيارات حديثة، لكنها محكومة بقواعد صارمة تنتمي إلى العلاقات الأسرية أكثر من أي شيء آخر.
يختار الدويحي شكلاً شعرياً في سرد أحداثه؛ فهو لا ينتقل بشكل زمني، وإنما يتحرك من دون قاعدة، وهو في الوقت نفسه يقوم بقفزات زمنية حينًا، مثلما جرى مع أحمد ناجي، فيما يحرك الزمن ببطء حينًا مثلما جرى في المشهد الافتتاحي، أو في ذهاب الراوي إلى اليمن أو سفر إلى بيروت، فهو يعتمد الهدف من استخدام الزمن في النص معياراً لعرضه.
الشخصيات النسائية في النص مثيرة للانتباه؛ فنورة المصرية وندى اللبنانية تحاولان التكيف مع المجتمع السعودي، فالأولى وإن أعطاها زوجها الحرية في كل شيء تعيش بقواعد المجتمع، والثانية يعجبها التنقل بين القصور، أمّا فتيات السعودية: خديجة وحصة فإنهما تندفعان بقوة، واحدة إلى التجربة والانطلاق، والثانية إلى بناء الأعمال واختيار الزوج وانتهاز الفرص.

تبقى سمة أصيلة في إبداع الدويحي أن نصوصه لا تجري في بلد واحد، وإن حدث هذا كما في رواية «غيوم امرأة استثنائية» فإنه يستجلب ما يُجرى خارجًا ليصبح مؤثرًا وفاعلاً بقوة وهيمنة فكأنه شديد الحضور رغم غيابه، ويرجع ذلك إلى خبرة الدويحي بعدد كبير من البلاد العربية التي زارها، وانخرط في ثقافتها، ويرجع أيضاً إلى قيامه بدور مستمر في جمع الكتاب العرب، وربطهم بكتاب المملكة، سواء أكان هذا عبر صفحته على فيسبوك أو مقالاته في عدد من كبريات الصحف السعودية.

هذه رواية جديرة بالدرس والقراءة فهي لا تقدم صورة نمطية عن المجتمع السعودي، وفي الوقت نفسه لا تقدم صورة غير واقعية، إن أربعين عاماً تقريباً من عمر المملكة وتطورها، يكمن في هذه الرواية صغيرة الحجم نسبياً فهي لا تتجاوز 190 صفحة، لكنها مليئة بشبكة من العلاقات والأحداث المعقدة؛ إنها أشبه بالسير في أرض صحراوية ممتلئة بالوهاد والنجاد، لا تستطيع سبر غورها، إلّا إن كنت ابنها، أو سرت فيها مرة بعد مرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"