الإذاعة المصرية ذاكرة العرب

ا حتفلت بمر ور 74 عاماً على ميلا دها
20:22 مساء
قراءة 5 دقائق

هنا القاهرة كلمتان نطقهما المذيع أحمد سالم منذ 74 عاما فتغيرت الحياة ليس في مصر وحدها بل في سائر الأرض العربية. كلمتان خرجتا من فم المذيع الشاب في مساء 31 مايو 1934 لتبدأ الإذاعة المصرية إرسالها للمرة الأولى، وسرعان ما أصبحت ذاكرة العرب جميعا وتوالت محطات الإذاعة سواء من مصر أو من الأقطار العربية المختلفة، ثم ظهر التلفزيون وانتشرت الفضائيات والانترنت وسائر وسائل الاعلام المتقدمة، ومع ذلك ظلت الإذاعة في القلب تحتل ركنا في قلب كل المستمعين وتستحوذ على مشاعرهم فهي تمتلك سحرا خاصا مازال قادرا على التأثير.

إن رحلة الإذاعة لم تبدأ في 31 مايو/ ايار 1934 فقط بل سبقتها إرهاصات وبدايات عديدة، حيث بدأت الإذاعات الأهلية أولا ففي العام 1927 افتتحت إذاعة مصر الجديدة وبعد عامين افتتحت محطة أهلية أخرى أوروبية هي إذاعة سابو، وفي العام 1932 افتتحت محطة راديو الأمير فاروق الملك فاروق فيما بعد.

تاريخ المحطات الأهلية قبل افتتاح الإذاعة الرسمية تاريخ طويل ولم يقتصر على القاهرة وحدها. ففي الإسكندرية افتتحت إذاعتان الأولى محطة راديو سكمبري والثانية محطة راديو فيولا.. هذه الإذاعات الملاكي كان يقوم بتشغيلها هواة، لذلك استخدموها كما يحلو لهم، فبعضهم استخدمها لبث رسائل الغرام، والبعض الآخر في ترويج المخدرات. وفي أوائل الثلاثينات ألقت سلطات الأمن القبض على إحدى عصابات المخدرات التي استخدمت محطة إذاعة أهلية في توجيه أفراد العصابة لتسليم البضاعة في الأوقات المحددة، لذلك حاولت الحكومة تنظيم الإذاعات الأهلية والسيطرة عليها، لكن الأخيرة قاومت بشدة وكانت تهدأ أحيانا وتمتنع عن بث رسائل الغرام، ثم تعود مرة أخرى للعبث، لذلك أصدر وزير المواصلات في 13 يوليو 1932 بيانا قال فيه: الوزارة ستقوم باتخاذ اللازم لمنع الشكاوى التي تتعلق بعدم الراحة الناشئة من سوء استعمال الراديو وإطالة وقت الإدارة في محطات الإذاعة واستخدام الآلة على وجه يضايق الجمهور ويؤدي إلى إقلاق الراحة.

وبعد عامين فقط نفذ الوزير ما سبق أن ألمح إليه، وألغت الحكومة محطات الإذاعة الأهلية، ووقعت عقد احتكار بينها وبين شركة ماركوني الإنجليزية مدته عشر سنوات وينفق عليها من حصيلة رخص استقبال الإذاعة، حيث كانت الحكومة قد فرضت رسوما محددة على كل جهاز راديو، وفي مساء 31 مايو/ ايار 1934 افتتحت رسميا محطة الحكومة المصرية للإذاعة اللاسلكية في تمام الساعة السادسة، بدأ البرنامج أولا بتلاوة الشيخ محمد رفعت الذي حصل على أجر قدره 3 جنيهات مصرية، ثم انطلق أول صوت صافح آذان المستمعين وهو صوت المذيع أحمد سالم الذي قال: هنا القاهرة سيداتي وسادتي أولى سهرات الإذاعة المصرية في أول يوم من عمرها تحييها الآنسة أم كلثوم.

دفعت الإذاعة للآنسة أم كلثوم في ذلك الزمان 25 جنيها نظير إحيائها للافتتاح، وإلى جانب أم كلثوم غنى في يوم الافتتاح المطرب صالح عبدالحي، ثم مطرب الأمراء والملوك محمد عبدالوهاب، وتبعه حسين شوقي أفندي الذي ألقى قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بك، وأخيرا ألقى الشاعر علي بك الجارم بصوته قصيدة تحية لملك البلاد فؤاد الأول ملك مصر والسودان.

تلك باختصار وقائع افتتاح الإذاعة الوليدة التي قدر لها أن تكون شاهدا على العصر وعلى كل التطورات والأحداث السياسية التي مرت على المنطقة، وسرعان ما أصبحت ترمومتر لما يمكن توقعه، وكانت سببا أساسيا في شهرة الكثيرين وطريقا للنجومية مثل فريد الأطرش الذي بدأ حياته عازفا على العود في الإذاعة، وكان يتقاضى جنيها واحدا عن نصف الساعة ثم ارتفع أجره عندما غنى إلى 4 جنيهات، أما رياض السنباطي فقد تعاقدت معه الإذاعة على إحياء 4 حفلات لعزف العود منفردا لمدة 30 دقيقة نظير أجر 50 قرشا عن كل حفلة.

إلى جانب نجوم الغناء والطرب تعاقدت الإذاعة مع عدد من نجوم الفكر والأدب للحديث في موضوعات مختلفة مثل طه حسين والعقاد وسهير القلماوي وفكري أباظة، كما استضافت نجوم الشعر ليلقوا قصائدهم مثل أحمد رامي وخليل مطران وشوقي وغيرهم.

وسرعان ما أثبتت الأحداث المتلاحقة أن الإذاعة ليست مجرد أغان وأحاديث ثقافية، فبعد وفاة الملك فؤاد وتولي ابنه الملك فاروق شاركت الإذاعة في هذا الحدث الجلل بنقل احتفالات الجلوس على العرش، وعندما أعلن مصطفى النحاس زعيم الوفد ورئيس الحكومة إلغاء المعاهدة 1936 مع الاحتلال، اختار الإذاعة لنقل خطابه، وقبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية، كانت المعارك تدور بين الحلفاء والمحور في صحراء العلمين على أبواب الإسكندرية، لذلك أصدر مصطفى النحاس قرارا بنقل تبعية الإذاعة إلى وزارة الداخلية لتكون تحت الإشراف المباشر والسيطرة الحكومية.

لكن العام 1944 شكل لحظة مهمة في حياة الإذاعة، فبعد انتهاء العقد المبرم بين شركة ماركوني الإنجليزية المكلفة بإدارة المحطة وبين الإذاعة المصرية بدأ عهد جديد، تولى فيه المصريون الإدارة حتى فوجئ المستمعون صباح 23 يوليو 1952 بصوت أنور السادات يعلن قيام حركة الجيش المباركة، وبدأ الضباط يجدون طريقهم نحو مبنى الإذاعة بشارع الشريفين في قلب القاهرة وفي مقدمتهم اللواء محمد نجيب قائد الحركة المباركة.

أما صوت جمال عبدالناصر فلم يسمعه المصريون إلا بعد ذلك بعامين في أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء بين الاحتلال ومصر، وكان عبدالناصر وقتذاك رئيسا للوزراء وألقى على الأمة بياناً جاء فيه: أيها المواطنون، إننا نعيش الآن لحظات مجيدة في تاريخ وطننا، إننا نقف الآن على عتبة مرحلة حاسمة من مراحل كفاح شعبنا، لقد وضع الهدف الأكبر من أهداف الثورة منذ هذه اللحظة موضع التنفيذ الفعلي، فقد وقعنا الآن بالأحرف الأولى اتفاقا ينهي الاحتلال وينظم جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر الخالدة.

وفي اليوم نفسه غنت أم كلثوم: يا مصر إن الحق قد جاء، وغنى عبدالوهاب نشيد القسم.

المجد والشهرة

قبل العدوان الثلاثي العام 1956 توقعت الإذاعة أن يتم ضرب محطة إرسالها من صحراء أبي زعبل شمال القاهرة بالطيران ووضعت خطة طوارئ لإعادة تشغيلها في ظروف الحرب، وهو ما جرى بالفعل عندما بدأ العدوان وضربت المحطة، إلا أن صوت الاذاعة لم يغب، لأن المهندسين المصريين كانوا قد أنشأوا محطات احتياطية تعمل بصفة مؤقتة.

وهكذا ظلت الإذاعة محورا أساسيا في حياة الملايين، ليس فقط فيما يتعلق بالأحداث والتطورات القومية الكبرى في البلاد، بل كانت إلى جانب هذا بابا للمجد والشهرة لعشرات المطربين والفنانين العرب، وفي ظلها نشأت فرق فنية عديدة مثل ساعة لقلبك والدراويش وغيرهما.

كما ابتدعت الإذاعة فكرة إضافة إذاعات صغيرة إلى الإذاعة الأم مثل إذاعة صوت العرب التي بدأ إرسالها في 4 يوليو 1953 لمدة نصف ساعة يوميا، وبعد مرور عام وصل إلى 7 ساعات إرسال، واشتهر من خلال صوت العرب برامج كان الملايين يلتفون حول أجهزة الراديو ينتظرونها بالساعات مثل كفاح العرب وما يطلبه العرب وصوت العرب في خدمة العرب، وتوالت بعدها الإذاعات مثل إذاعة ركن السودان التي افتتحت في مارس/ آذار 1954 خصيصا لأبناء السودان.

ويتذكر المخضرمون أن الإذاعة ظلت على مدى عقدين من الزمان تذيع في الخميس الأول من كل شهر حفلا ساهرا لأم كلثوم تنقله الإذاعة ليذاع على الملايين في كل الأراضي العربية. _

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"