حرية المسلم تنتهي عند الحلال والحرام

02:29 صباحا
قراءة 6 دقائق

يعتقد بعض المستهترين بتعاليم الإسلام وأحكامه، فضلاً عن القيم والأخلاق، أن من حقهم أن يفعلوا ما يشاؤون، وأن الحرية تعني أن يرتكبوا ما يحلو لهم من معاصٍ وذنوب من دون أن يحاسبهم أحد أو حتى يناقشهم، فهل يقر الإسلام هذا الفهم، وذاك السلوك؟ وما مسؤولية المجتمع في حماية أحكام الإسلام وتعاليمه من هذا العبث؟
في البداية يؤكد المفكر الإسلامي د. محمود حمدي زقزوق عضو هيئة كبار العلماء ورئيس مركز الحوار في الأزهر، أن الإسلام لم يترك للإنسان حرية الفوضى، لكنه ترك له حرية الاختيار، فالإنسان حر في الاختيار بين الإيمان والكفر، (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وما دام الإنسان أعلن إيمانه بعقيدة الإسلام، فهو مطالب شرعاً بمقتضيات هذا الإيمان، من عبادة صادقة خالصة لوجه الله، ومعاملات وأخلاق تتفق مع تعاليم الدين وتوجيهاته.

حرية منضبطة

ويضيف: ينبغي أن يدرك كل مسلم أن حقه في المباحات ليس حقاً مطلقاً، ولا يمكن أن يكون مطلقاً، فالمرء لا يعيش وحده في هذا العالم، بل يشاركه فيه غيره من الناس الذين لهم أيضاً حرياتهم المشروعة التي قد تتعارض مع حريته. ومن هنا كان لا بد من التوفيق بين حريات الناس، إذ لا يجوز أن يتمتع بهذه الحريات فريق دون فريق، فكلهم في ذلك سواء بصرف النظر عن أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم، فالاعتبار الإنساني وحده هو المعيار.
ومن هنا يؤكد د. زقزوق أنه لا يجوز أن يعتدي أحد على حرية آخر بحجة أنه حر، وأن من حقه أن يفعل ما يشاء، كما لا يجوز له أن يتعامل مع تعاليم الإسلام وفقاً لهواه الشخصي من غير التزام بقاعدة الحرام والحلال، فالمسلم مطالب بالالتزام بما شرعه الله أولاً، ولأن في هذا الالتزام مصلحته ثانياً، فكل ما فيه مصلحة حقيقية للإنسان أباحته شريعة الإسلام وحثت عليه، وكل ما فيه ضرر حرمته وحذرت منه.. ولذلك جاءت أحكام الإسلام وتشريعاته عادلة ومنصفة وموضوعية، وتحمل الخير للإنسان، ومن هنا هو مطالب بأحكامها، ولو تجاهل تلك الأحكام فليكن ذلك بينه وبين نفسه، ولا يجاهر بذلك، فليس لمسلم حق المجاهرة بالمعاصي، ولو فعل ذلك، فهو يهدد الأمن الاجتماعي، ويستحق العقاب.

ركائز أساسية

ويوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر أن الشريعة الإسلامية وضعت خطوطاً فاصلة بين الحلال والحرام حتى لا تختلط الأمور على الإنسان، ويفقد القدرة على التمييز بين المباح والمحظور والنافع والضار.. كما وضعت الشريعة الغراء جملة من المبادئ الأساسية وجعلتها ركائز أساسية يقوم عليها أمر الحلال والحرام، وأبرزها: أن الأصل في الأشياء الإباحة، فالأصل في ما خلق الله من أشياء ومنافع هو الحِل والإباحة، فلا حرام إلا ما ورد نص صحيح صريح بتحريمه، ولذلك ضاقت دائرة المحرمات في شريعة الإسلام، واتسعت دائرة الحلال اتساعاً كبيراً، فالنصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جداً، والأمر الذي لم يأتِ نص بحله أو حرمته باقٍ على أصل الإباحة وفي دائرة العفو الإلهي. وهنا يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غيرَ نسيان فلا تبحثوا عنها»، فالمسلم مطالب شرعاً أمام ما قرره خالقه أن يقول: «سمعا وطاعة»، كما أنه مطالب بالحرص على ما جاءت به شريعته مع الإيمان الكامل بأن ما قررته من أحكام جاء لمصلحته أولاً وأخيراً، فقد جاءت الشريعة بكل ما فيه تيسير ورحمة بالإنسان، ولم تحرم عليه شيئاً نافعاً له.

لا تضييق ولا إرهاق

إن الشريعة لم تحرم أمراً إلا عوضت الإنسان عنه بما هو أفضل منه. فقد حرمت الزنا، وأباحت الزواج، لكي يفرغ الإنسان طاقته الجنسية عن طريق مشروع وفي مناخ آمن، وحرمت الربا، وعوضت الناس عنه بالتجارة الرابحة، وحرمت الحرير على الرجال، وعوضتهم عنه بكل أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن، وحرمت شرب المسكرات، وأباحت للإنسان كل المشروبات اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرمت الخبائث من المطعومات، وأباحت للإنسان كل الأطعمة الطيبة. ولو تتبعنا أحكام الإسلام جميعها لوجدنا أن الله جل شأنه لم يضيق على عباده في جانب إلا وسَّع عليهم في جانب آخر من جنسه، فهو سبحانه لا يريد لعباده عنتاً ولا عسراً ولا إرهاقاً، بل يريد بهم اليسر والخير والهداية والرحمة، وصدق الحق، سبحانه، عندما قال في كتابه الخالد: ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، اللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا). وحرصاً من الإسلام على حماية الإنسان من أضرار الحرام ومفاسده، فقد حرم كل ما يؤدي إلى الحرام، وجعله حراماً مثله، ولذلك وضع الفقهاء المسلمون قاعدة فقهية تقول: «ما أدى إلى الحرام فهو حرام».

المهملون والجاحدون

وكما لا يجوز أن يحول الإنسان الحرام إلى حلال وفقاً لأهوائه الشخصية ونزواته، فلا يجوز أيضاً إنكار فريضة من فرائض الإسلام، فهذه الفرائض من صلاة وصوم وزكاة وحج ومن قبلها جميعاً شهادة أن لا إله إلا الله، تمثل أركان الإسلام، ولا حرية لمسلم في إنكارها وعدم الاعتراف بها.. لكن لو أهمل المسلم الفرائض والعبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج من دون جحود كان مسلماً منقوص الإيمان عاصياً غافلاً، وينتظره عذاب أليم، حيث لا يكتمل إيمان المسلم إلا بأداء هذه الفرائض، فالعبادة هي غاية الخضوع لله سبحانه وتعالى، مع غاية المحبة له، يقول الحق سبحانه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»، ويقول صلوات الله وسلامه عليه في حديث آخر: «لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين».

مفهوم العبادة

والعبادة في الإسلام، كما يقول د. حامد أبو طالب أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث بالأزهر، شاملة للدين كله وللحياة كلها، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن معنى قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، فقال: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والدعاء والذكر، وقراءة القرآن.. وأمثال ذلك من العبادة.
وهي أيضاً تشمل حسن المعاملة والوفاء بحقوق العباد.. كبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان لليتيم والمسكين وابن السبيل والرحمة بالضعفاء، والرفق بالحيوان.. كما تشمل العبادة الأخلاق والفضائل الإنسانية كلها من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، فضلاً عن الفريضتين الكبيرتين، وهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومقتضى عبادة الإنسان لخالقه، عز وجل، أن يخضع أموره كلها لما يحبه، سبحانه وتعالى، ويرضاه من الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يكيف حياته وسلوكه وفقاً لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أو نهاه، أو أحل له أو حرم عليه، كان موقفه في ذلك كله: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
فالمؤمن مطالب بأن يسلم زمام حياته كلها لخالقه، فلا يعترض على فريضة، ولا يسخر من خلق، ولا يستهتر بفضيلة، بل عليه أن يمتثل قول الحق سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)، وقد قال العلماء: «ليس بعبد لله من أدى الشعائر، ولكنه لم يخضع لآداب الإسلام وتقاليده في نفسه أو أهله، وليس بعبد لله من ظن أن عبوديته لله لا تعدو جدران المسجد، فإن انطلق في ميادين الحياة فهو عبد لنفسه، ولا سلطان عليه غير شهواته».
وهكذا يتضح لنا أن العبادة بمفهومها الشامل تعني الخضوع لشرع الله، والانقياد لأحكامه التي أحل بها الحلال وحرم بها الحرام، وفرض بها الفرائض، وحدَّ بها الحدود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"