حمدة خميس . . سيدة القصائد البرية

حديقتها تشبه ألبوم صورها القديمة
03:30 صباحا
قراءة 6 دقائق
الشارقة - محمد أبو عرب:
لا يمثل الدخول إلى بيت الشاعرة حمدة خميس سوى دخولاً إلى أحد البيوت الكاريبية القديمة التي تتدلى فيه النباتات من الشرفات ويتسلق الورد الجدران ليصبح البيت حديقة برية تنمو على جانبيها غرف للنوم ومطبخ صغير يفيض برائحة البن والأعشاب المجففة .
هو تماماً كذلك بيت خميس، فما أن فتحت ل "الخليج" باب بيتها، الكائن في الحيرة في الشارقة القديمة، حتى اندلقت أنواع من الورد والنباتات لا يسع المرء إلا الوقوف مذهولاً أمامها، فهي لا تنمو بانتظام، كما يحرص أصحاب البيوت الفارهة، بأصصٍ، وبأنساق مرتبة، وإنما تفيض بكامل حريتها وتتمدد حتى أنها تدخل إلى غرف النوم وتغفو إلى جانب أهل البيت .
طاولة وخمسة مقاعد خشبية، وثلاث أرائك تحمل كل منها لوناً مختلفاً، كانت تتوزع في باحة البيت، حيث تقضي خميس مساءها، محاطة بنباتاتها، هناك كانت قد قطفت ثمار التوت من شجرة ترافق الجالسين بأغصانها ولون ثمارها، وضعت صحنين على الطاولة وأحضرت صحناً يمتلئ بالماء البارد، وكأنها تدعو ضيفها لغسل التوت بيده وتتركه يختبر مذاق الثمار بالقرب من الشجرة الأم .
كما تظهر حمدة خميس وهي تقرأ قصيدة عالية، تبدو وهي تعيش تفاصيل يومها، فالحياة بالنسبة لها جميلة بما يكفي لتصبح قصيدة تمتد على سنين العمر، إذ كل خطوة لها، وكل كلمة تقولها، هي حالة شعرية كاملة، وكأنها حين تستقبل زائرها لا تقول له أهلاً بك في بيتي، بل أهلاً بك في قصيدتي .
تمشي بهدوء تتفقد فيه بناتها الشجرات، وتمرر يدها عليها حين يناديها الورد وتتبعها الأغصان، فتقول: "كل ما في حديقتي زرعته أنا، من بذرة أو غصن، ولم يحدث أن اشتريت يوماً نبتة مزروعة واعتنيت بها، كما أن حديقتي تشبه ألبوم صوري القديمة، فكل بلد زرته أحضرت منه نبتة صارت هي اليوم شريكة يومي وذاكرة للمدن والقرى التي عشت بها يوماً" .
تقول ذلك وتقطع ورقتين من نبتة غريبة بعد أن أعدت كوبان من الشاي، فتقول: "هذا نوع من أنواع الزعتر يندر أن تجد منه في الإمارات، يعرف كثيراً في دول شرق آسيا، إلا أنه يشترك مع الزعتر المعروف بالرائحة فقط، ما عدا ذلك فهو مختلف من حيث الشكل والنمو والمذاق" .
مثلما يمر الهواء محملاً برطوبة الأشجار كانت خميس تستعيد يومها، وعامها، وعمرها، فتعود قليلاً قليلاً إلى مسقط رأسها في قلب الشارقة، حيث ولدت لعائلة من خمسة أفراد يعمل فيها الأب في صياغة الذهب واصطياد اللؤلؤ، وتربي الأم بناتها بدفءٍ، فتمر خميس ذهاباً وإياباً في باحة البيت وتدخل إلى الغرف الموزعة حول الحديقة والباحة، لتروي حكايات طفولتها مستشهدة بصور، ودفاتر، ودمى، ومقتنيات .
من ذاك البيت الذي غادرته خميس إلى البحرين مع عدد من أفراد عائلتها، بدأت حكاياتها الأولى، فهي لم تكن يوماً شاعرة وحسب، إنها قبل كل ذلك شغوفة، تعيش كل شيء بجمالية وتختار القصيدة لتعلن عن نفسها، إذ تروي شغفها في العمارة، فتقول: "هذا البيت الذي أعيش فيه، بنيته بتصميمي غرفة تلو أخرى، حيث كان قديماً غرفة مع مرافقها أعطاها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة لأمي كمنحة من الدولة للنساء الأرامل، وبعد أن عدت من البحرين صرت أتوسع فيه وأبني حوله كل هذه الغرف، بعد أن كان وحيداً وسط ساحة ترابية، فكنت أجلب عمال المياومة وأوفر لهم المواد والمعدات، ليبنوا لي غرف البيت، حتى صار البيت اليوم تسعة غرف مع مرافقها" .
وتتذكر: "شغفي بالعمارة يبدأ من الطفولة حيث كان بيت جدي الذي نشأت فيه في البحرين قريباً من البحر، فكنت أجمع الصدف، وعظام الطيور المهاجرة من الشاطئ، وأصنع منها دمى وأواني مطبخية، وكؤوس، وأرتبها في صناديق الخضار الخشبية" .
كل شيء يصبح قصيدة حين تمسسه يد الشاعر، كذلك تنجو خميس من رتابة اليوم إلى قصائد تنمو وقصائد تتحرك وأخرى تغنى وتقرأ، وقصائد تصادقها، وأخرى تهجرها، فلا تعيش يومها كسيدة تنتظر صحو الشمس، بل تجلب الحياة إلى يومها كما تشاء، فما أن تصطحبنا إلى مكتبتها حتى تطل آلة حياكة، وتظهر عدداً من الطبول الإفريقية، وبيانو، والآلاف من الكتب التي تملأ ثلاث غرفٍ وتفيض على جانبي الأسرة، وفي المطبخ، وغرف الجلوس .
لكل ذلك حكاية، بدأت من الطفولة حيث درست خميس في مدرسة الرفاعة الشرقي في البحرين، وحيث تخطت المراحل الدراسية الأولى بعد أن كانت قد تعلمت القراءة قبل أن تصل إلى سن الالتحاق بالمدرسة، منذ تلك السنوات حيث كانت تشعل مصباحاً وتغطي نفسها باللحاف وتقرأ حتى مطلع النهار .
منذ تلك الأيام بدأت كل حكاية في سيرة خميس، فقد شغفت بالخياطة، وكانت تخيط ثيابها وثياب صديقاتها، ولاحقاً ثياب أبنائها وبناتها، إذ تقول: "لم أنتقل لبيت طوال حياتي إلا كانت آلة الخياطة تسبقني إليه، فأنا شغوفة بالخياطة"
وتروي: "أما فيما يتعلق بالآلات الموسيقية، فقد وقعت في عشق الموسيقى حين كنت طفلة صغيرة، إذ كنت أستمع إلى إذاعة الشرق الأوسط بعد منتصف الليل، حين كنت أضع نفسي تحت اللحاف وأقرأ، فتعرفت إلى موزارت، وبيتهوفن، وهايدن، وغيرهم من قامات الموسيقى الكلاسيكية، ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم ولديّ شغف بتعلم العزف على آلة البيانو، ومؤخراً اشتريت بيانو ومواد تعليمة لأبدأ العزف" .
"أما الطبول فهي إفريقية اشتريتها خلال زيارة لي إلى السودان، حيث خرجت مع عدد من الصديقات لشراء التذكارات، وفيما هن يشترين القماش والثياب، أعجبت بالطبول وشكل الجلد المشدود عليها" .
قالت خميس ذات يوم "إن الكتب معرفة تنسى وسلوك يكتسب"، لذلك لا تبدو الغرابة والشعرية التي تعيشها في ظل آلاف الكتب التي يفيض فيها بيتها، فمع شغفها بالنباتات، والموسيقى، والحياكة، تعلمت فن "المكرميه" وهو واحد من الفنون القائم على نسج الخيوط المتينة التي تعلق على الأسرة، والتي تصنع منها "الهاموك"- الأسرة المعلقة على الشجر .
يرافق ذلك كله شغف بالفنون التشكيلية، فمنذ أنهت دراستها للعلوم السياسية والاقتصاد في جامعة بغداد في سبعينات القرن الماضي، وحين كانت تدرس طلاب المرحلة الابتدائية في المدرسة التي تخرجت فيها - الرفاعة الشرقي - كانت تعتني بدروس الفن وتحفز الطلاب على الإبداع والرسم بحرية فتأخذهم في جولات خارج المدرسة وتسهل لهم مواد الرسم للدرجة التي تصبح فيها أكياس البقالة الورقية مساحة ليبدع فيها الطلاب رسومهم .
حتى اليوم يرافق خميس شغف الفن، وحتى اليوم تحتفظ بأدوات الرسم والأقلام لتذهب إلى اللوحة إذا شدها الفن إليه، وهي تعترف بأنها نقلت ذلك لأبنائها إذ واحدة من بناتها تجيد الرسم لكنها ترفض الاعتراف بذلك .
تغرب الشمس على زيارتنا، وتشعل خميس ضوء الباحة، فيما قططها المدللة تغفوا على الأرائك، والنباتات تجمع أزهارها وتنوس، فتغيب حمدة في مكتبتها قليلاً لتعود بمجموعتين شعريتين صدرتا لها عن دار النشر الجديدة التي أطلقتها العام الماضي تحت عنوان دار "العلياء للنشر والتوزيع" .
تقول: "بعد سنوات ستة قضيتها في التدريس في البحرين، عدت إلى أمي في الشارقة، وبدأت العمل في الصحافة اليومية ومراسلة المجلات العربية، عبر مقالات أدبية وتحقيقات صحفية، وغيرها، فصارت الكتابة مصدر رزقي الذي أربي منه أولادي، والذي بنيت منه بيتي، فكلما صدرت لي مجموعة شعرية جديدة، تذكرت حين كانت مديرة المدرسة التي كنت فيها في الإعدادية والثانوية تسألني كلما ذهبت في إجازتها إلى بيروت ما أحتاج إليه من الكتب، فكنت أكتب لها العناوين التي غالباً كنت أسمع عنها في الإذاعات، وكانت تزودني بها، فأحضرها معي إلى المدرسة وأفتح مقرر الدراسة والكتاب الذي أقرأه أضعه في درج المقعد، وكنت أرتدي نظارة سوداء كي لا ترى المعلمة اتجاه نظري فأقرأ الروايات والأدب والفكر فيما المعلمة منشغلة في درس الحساب أو الجغرافيا" .
سيرة من الشغف والقصائد البرية نسجتها حمدة خميس طوال حياتها فصارت سيدة من قصائد، تكتب يومها في ري أشجار الياسمين والرمان والقطن والزيزينيا، وفي نسج الصوف وصناعة الدمى، والاستماع إلى الموسيقى .
تودعنا خميس وتلوح لنا من باب بيتها، حيث تنتظر ببغاء يزورها كل يوم في المساء، تودعنا وتعود إلى بناتها الشجرات الكثيرات، وكأنها بدأت حياتها للتو .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"