ما بعد 1945

03:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. حياة الحويك عطية

في كتاب جديد يقول الباحث السياسي الفرنسي جيل كيبيل إن الشرق الأوسط هو اليوم أشبه بوضع أوروبا عام 1918 أو عام 1945، أي بعد الحرب العالمية الثانية. وإذ نحاول تفكيك هذه المقولة فإنما يبرز السؤال: هل خرجت أوروبا فعلياً من حالها بعد الحرب العالمية الثانية؟
كيبيل يقصد أن نهاية الحرب السورية التي بدأت مراحلها الأخيرة إنما جعلت العالم موزعاً بين قطبين يتنازعان الهيمنة عليه. فكما حاربت أوروبا أوروبا في الحربين العالميتين، وأضعفت أوروبا أوروبا (المنتصرة والمهزومة) طوال سنوات الحرب قبل أن يتدخل الأمريكي ويقطف ثمارها، كذلك أضعف العربي العربي، وخرج الجميع خاسراً بشكل أو بآخر. وكما خرجت أوروبا من الحرب لتجد نفسها مقسومة بين منطقة نفوذ أمريكي ومنطقة نفوذ سوفييتي، وأحيانا من يمثلهما من قوى إقليمية، فإن العالم العربي، وربما الشرق الأوسط، يجد نفسه في المقام نفسه اليوم. وكما احتاجت أوروبا إلى مشروع مارشال لإعادة الإعمار غرباً، وإلى النظام السوفييتي لإعادة الإعمار شرقاً، فإن العالم العربي يبحث عن مارشال جديد، وسوفييت، وربما يتجاوز الأمر إلى أكثر من طرفين، حيث تقف قوى أخرى، وتجمعات أخرى، على هامش الاصطفافين.
كل ذلك جعل أوروبا العميقة تعيش منذ 1948 وحتى الآن، صراع الاستقلالية. منذ ديجول واديناور اللذين لم يتجاوزا جراح الحرب بين ألمانيا وفرنسا الاّ في سبيل إقامة اتحاد أوروبي يؤمّن الاستقلالية عن كل من القطبين الأمريكي والروسي. هذا الصراع يفسر لبّ صراعات الرؤى التي تترجم نفسها بعناوين تبدو اكثر بساطة ووضوحاً. بمعنى أن ما يبرز هو اختلاف الرأي في أزمة سياسية أو اقتصادية آنية، من دون أن ينتبه الجميع إلى أن عمق الخلاف هو تناقض الرؤى بخصوص الاستقلالية، وذلك بشكل عابر لاصطفاف اليمين واليسار. فمعارضة وزير الدفاع جان بيير شفينمان اليساري في فرنسا للحرب ضد العراق عام 1991، لم تكن إلاّ ترجمة لرؤية استقلالية، في وجه رؤية تبعية أطلسية للذين انضموا إلى التحالف الدولي. ومثلها موقف وزير الخارجية دومينيك دو فيللوبان وزير الخارجية اليميني من احتلال العراق عام 2003. ولذلك رأينا كتباً كثيرة لسياسيين كبار تحمل عنوان «رؤية معينة للجمهورية». كذلك كانت مواقف شرودر في ألمانيا مثلاً. وإذ بدا بعد 2003 أن محور الاستقلالية قد كسر نهائياً بعد العراق، بدليل سقوط الزعماء الذين مثلوه، واحداً تلو الآخر، من شرودر ألمانيا إلى شيراك فرنسا، حيث بدا أن وصول ميركل وساركوزي قد حسم أمر التبعية للأطلسي بقيادة أمريكية. وذلك بما ينسجم مع الأحادية التي حكمت العالم.
ومع ما سمي «الربيع العربي»، تأكدت هذه التبعية من دون مواربة من ليبيا إلى سوريا. ولكن تطورات المشهد الدولي، وغطرسة دونالد ترامب في التعامل مع الحلفاء قبل الخصوم، تدفع أوروبا الى شيء من التمرد بخصوص التعامل مع إيران والصين وروسيا. ليس لمجرد التمرد بالطبع، بل لأن ما أسميناه غطرسة ترامب ليس إلا مجرد تعبير خاص عن سياسة ثابتة للولايات المتحدة، لم يشذ عنها أحد من أسلافه: يجب سحق مقاومي هيمنة الولايات المتحدة، واحتواء الحلفاء، بحيث لا يشكل أيّ منهم منافساً مستقلاً.
هكذا تعود أوروبا من التسليم الكامل بالتبعية إلى صراع الرؤيتين: الاستقلالية والتبعية. فكما قال ديجول يوماً: حماية فرنسا يجب أن تكون فرنسية، ما جعله (إضافة إلى أسباب أخرى) يخسر حكمه. وقالت ميشال اليوت ماري وزيرة شيراك، في اجتماع وزراء دفاع الأطلسي «نحن حلفاء شركاء ولسنا تابعين»، وبالتالي تم تركيع شيراك، وتدمير حكمه، والمجيء بخصمه اللدود ساركوزي، كذلك نرى اليوم ماكرون وميركل يتحدثان عن جيش أوروبي، فتتفجر الأحداث في وجهيهما.
في المشبه، والمشبه به، ووجه الشبه، نستطيع أن نسوق المقارنات نفسها على العالم العربي، ليس اليوم فحسب، بل ومنذ حرب العراق.
فأمام هذا العالم، قوة أمريكية وقوة أوروبية، وقوة روسية، وقوة صينية. وقوى متمثلة في تجمعات عالمية معروفة تقع في هذا الفضاء، أو ذاك. ما يذكّرنا بالحل العبقري الذي لجأ إليه عبد الناصر في الخمسينات والستينات، عندما ابتكر مع تيتو ونهرو، منظمة دول عدم الانحياز. هذه المنظمة التي ساعدت في مواجهة قضايا كثيرة في العالم. وهي لا تزال موجودة، ولكن مجرد اسم.
ومن دون أن ننسى أن ثمة عنصراً اساسياً في هذا التحليل لا يمكن إغفاله وهو الدور «الإسرائيلي» مدعماً بدور اللوبيات اليهودية في العالم.
المهم أننا نقف اليوم في هذا العالم العربي، بين مفترقين: الاستقلالية أو عدم الانحياز، والتبعية التي لا تخدمنا، بل تخدم من نتبع. فهل نختار؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"