«قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..»

01:54 صباحا
قراءة 6 دقائق
نتوقف في هذا المقام لدراسة ثلاث آيات من سورة الأنعام حول الحلال والحرام في بيان الله جل شأنه.
«قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألاَّ تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياكم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون» (سورة الأنعام، الآية 151).
«قل» لهم يا محمد «تعالوا أتل» أقرأ لكم «ما حرم ربكم عليكم»، فقد أوحى إلي: «ألا تشركوا به شيئاً».
فلا شيء البتة يمكن له أن يكون عدلاً مع الله، لأن كل شيء إنما هو خالقه، وقد جاء الشرك أولاً لأنه أكبر الكبائر: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا».

بر الوالدين

بعد النهي عن الشرك الذي جاء في المرتبة الأولى، أوصى الله تبارك وتعالى الأبناء بأن يحسنوا إلى والديهم «وبالوالدين إحسانا» أي أن الخالق سبحانه أوصى «بالوالدين»، وليس بالأبوين. فالكمة تذكرك بالولادة، فأنت ولدهما، ووليدهما، وقد ولدتَ منهما نتيجة تلاقح بين هذا الرجل وهذه المرأة. ولذلك هو والدك، لأنك لم تكن لتولد لولاه، ثم هي والدتك، لأنك لم تكن لتولد لولا أنها ولدتك. «وبالوالدين»، بمعنى أن هذه العملية المجردة وحدها قد جعلتهما والدين لك، أي بمجرد أنك ولدت، وحتى لو انقطعت العلاقة بينك وبينهما منذ اليوم الأول، وتولى غيرهما تربيتك، فذلك لا يسقط أنك ولدهما، وعندما تكبر قد تقول للرجل الذي رباك: أبي، وتقول للمرأة التي ربتك: أمي. ولكن لا تقول له: والدي، ولا تقول لها: والدتي. لأنهما ربياك فقط، ولم يلداك. «وبالوالدين إحساناً»، ومعنى الإحسان، أن يكسبا منك الحسنات، أي أن تفعل ما باستطاعتك حتى تحسن إليهما، وتوصل إليهما الحسنات، عرفاناً منك بفضلهما عليك، سواء في الولادة والتربية معاً، أو في الولادة من دون التربية، لأن المولود قد لا يرى والديه، أو قد لا يرى أحدهما. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير والده، لكنه: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما أن ابنته فاطمة، هي: فاطمة بنت محمد بن عبد الله. فعليك أن تكون مؤدباً مع والديك في الظروف جميعاً، وألاَّ ترفع صوتك عليهما مهما رأيت منهما.

«وبالوالدين إحساناً»، فلا يكفي ألا تكون سيِّئاً مع والديك، بل عليك أن تحسن إليهما حتى لو كانت ثمة مؤاخذات عليهما.
«ولا تقتلوا أولادكم من إملاق». وإذا كانت هناك «وبا» للتوصية، فهنا «ولا» للنهي، فلا ترتكبوا هذه الجناية بحق «أولادكم» تحت ذريعة الفقر، أو ضيق المعيشة. «نحن» بنون العظمة المكررة في الكلمة التالية «نرزقكم» نمدكم بالأرزاق «وإياهم» ونمدهم أيضاً.

تجنب الفواحش

«ولا تقربوا الفواحش» جمع فاحشة، وهي كل ما يجعل من مرتكبه فاحشاً، ومن ذلك الزنى، فالزاني هو فاحش بزناه، والزانية هي فاحشة بزناها. «ولا تقربوا» أي كونوا بعيدين عن «الفواحش ما ظهر منها وما بطن». فمن «الفواحش» ما تكون ظاهرة، فيمارسها المرء في العلن ومنها ما تكون مبطنة في السر، فذاك موضع لارتكاب «الفواحش»، ورغم ذلك يذهب بعض الناس إليه جهاراً نهاراً، وتلك فاحشة يرتكبها رجل وامرأة بسرية تامة، وأخذ حيطة من أي شبهة. «ولا تقربوا الفواحش» جملة، سواء «ما ظهر منها» إلى العلن، «وما بطن»، كان في خفاء.

«ولا تقتلوا النفس التي حرم الله» قتلها «إلا بالحق». باستثناء إقامة حدود الله على الجناة من الناس، وهذا من شأن القضاء الذي يصدر هذه الأحكام بعد التحقق.
«ذلكم» المبين، المفصل «وصاكم به» الله «لعلكم تعقلون»، وفي رشاد أمركم، فتفعلون ما يعقل، لا ما لا يعقل.

مال اليتيم

«ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدَّه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلِّف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون» (سورة الأنعام: الآية 152).

ينهاكم الله أن تمدوا أياديكم إلى «مال اليتيم» لأخذه «إلا بالتي هي أحسن»، أي أن تمد يديك لتحسن إلى هذا المال، لا أن تأخذه وتنتفع باستثماره، ثم تعيده كما أخذته إلى «اليتيم»، ولكن لك أن تمد يدك إلى هذا المال كي تستثمره لليتيم في تجارة مشروعة، إذا رأيت أن بقاء هذا المال جامداً، ينقص من قيمته الشرائية، فتضعه في عقار مثلاً، فيدر ذلك دخلاً شهرياً، يكون لليتيم، ثم قد يرتفع سعر العقار فيما بعد، فذلك فيه نفع لليتيم، ففي هذه الحالة المستثناة، يجوز أن تمد يديك إلى هذا المال، وتتصرف به من باب المنفعة، «حتى يبلغ أشده». من الشدة أي يشتد عوده، ويغدو قادراً على التصرف بماله. «فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم» (النساء 6)، حينها تعطي اليتيم حقوقه، وتصبح بريء الذمة تجاه ماله أمام الله.

أمانة الكيل والميزان

«وأوفوا الكيل والميزان بالقسط». الوفاء، هو إعطاء تمام الحق إلى المستحق، فالذي يوفي، هو الذي يعطي كامل الحق لصاحبه. يأمر الله تعالى القائمين على شؤون «الكيل والميزان» بأن يكونوا مقسطين في كيلهم وميزانهم، فيعطوا الناس حقوقهم. ذلك أن القائم على هذا الشأن يمكن له يتلاعب في الوحدات الميزانية، وفي وقتنا، مع ظهور أشكال جديدة ب «الكيل والميزان» إلكترونياً، أو كهربائياً، يمكن التلاعب في ذلك كما يمكن أن يحدث عطل في هذه الوسائل، فعلى القائم على شأنها، أن يتوقف عن استخدامها لدى اكتشاف ذلك، حتى يصلحها. ونرى أن يتحقق القائم على هذا الشأن بين حين وآخر من صحة هذه الوسائل، وذلك بأن يزن وزناً ثم يختبره في أكثر من ميزان، حتى يتحقق من سلامة ميزانه. فتلك هي أمانات الناس، وأنت أمين على هذا الميزان الذي تزن به حاجاتهم، وبالتالي عليك أن تعطي كل ذي حق حقه. ويجوز أن يكون القسط هنا بمعنى التساوي، أي عليك أن تساوي الناس بنفسك في هذا الميزان، كما لو أنك تبيع من بضاعة شخص ما إلى نفسك، فلا تبخس الناس حقوقهم في ذلك، كما أنك لا تريد أن يبخس حقك.

«لا نكلف نفساً إلا وسعها». ومعنى ذلك - والله أعلم -: لا تحمل نفساً «إلا» ما ب «وسعها»، فكل ما يأمر به الله تعالى، يستطيع الإنسان أن يعمل به من دون أن يهلك نفسه بذلك، وكل ما ينهى عنه، يستطيع أن ينتهي عنه من دون أن يهلك نفسه بذلك. فالتكاليف على قدر استطاعة النفس، وأعلم أن الاستطاعة ليست ثابتة، فما تستطيعه اليوم، قد لا تستطيعه غداً، ولذلك تكون السعة أيضاً متحوّلة وغير ثابتة، فسعة الأمس بالنسبة لصحتك، اختلفت عن سعة اليوم بسبب ما طرأ. وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم».

«وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى». لا تميزوا بين شخص وآخر في النطق بالحق، وساووا في قولكم بين الناس جميعاً، حتى «لو كان» الذي عليه الحق «ذا قربى».

«وبعهد الله أوفوا». كونوا أوفياء لمعاهدة الإيمان التي عاهدتموها مع الله عندما انتسبتم إلى الإسلام، وسألتم الله أن يقبل إسلامكم. فلتلك المعاهدة بنودها، وعليكم أن تكونوا أوفياء بها، وألا تخلوا بتلك البنود، فبموجبها سألتم الله قبول إسلامكم، وبموجبها قبل الله إسلامكم، «وبعهد الله» لا تخلوا. «ذلكم» ما تقدم ذكره «وصاكم به»، فالتزموا وصية الله «لعلكم تذكرون»، تتعظون.

الصراط المستقيم

«وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السُّبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون» (سورة الأنعام: الآية 153).

«وأن هذا» الذي أبيِّنه لكم إنما هو «صراطي» طريق الإسلام «مستقيماً»، لا عوج فيه، «فاتبعوه»، تستقيموا باتباعه. «ولا تتبعوا السبل» الطرق المعوجة «فتفرق بكم عن سبيله»، تشتتكم عن بعضكم البعض، وتجعلكم في اعوجاج «عن» سبيل الله المستقيم.
«ذلكم وصّاكم به» الله «لعلكم تتقون» عواقب اتباع «خطوات الشيطان». وقد جاءت وصية الله في الآيتين المتتاليتين، في الأولى: «لعلكم تذكرون»، تتعظون بهذا البيان. وفي الثانية «لعلكم تتقون» عواقب السبل المعوجة. ولا يوصيك إلا من يريد بك خيراً، وعندما يوصيك الله باتخاذ الطريق المستقيم، فإنه في الوقت ذاته يوصيك بعدم اتخاذ الطرق المعوجة. وقوله تبارك وتعالى «ذلكم وصّاكم به»، أي وصاكم باتباع الاستقامة، وبعدم اتباع الاعوجاج.

أخرج الترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث»؟ ثم تلا: «قل تعالوا» إلى ثلاث آيات، ثم قال: «فمن وفىَّ بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه».

عبد الباقي يوسف

أربيل - إقليم كردستان العراق
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"