أبو يوسف الكندي.. فيلسوف عشق الطب والموسيقى

قامات إسلامية
01:18 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

يعد الكثيرون أبا يوسف الكندي، مؤسِّسَ الفلسفة العربية الإسلامية، واستحقَّ عن جدارة ومقدرة لقب «فيلسوف العرب»، ولعل أهم ما قام به الكندي في قرنه أنه فتح للمسلمين باب التعرف إلى الفلسفة، ووضع اللبنة الأولى في توضيح مشكلة حرية الإرادة توضيحاً فلسفياً، فلاحظ أن الفعل الحقيقي ما كان وليد قصدٍ وإرادة، وأن إرادة الإنسان قوَّة نفسية تُحَرِّكها الخواطر والسوانح، وهو من المؤمنين بالسببيَّة، كما أنه يؤكِّد فكرة العناية الإلهية التي يخضع الكون بمقتضاها لسُنَن ثابتة، وخَلّفَ مؤلَّفات تربو على المئتين في مختَلَفِ العلوم، من أهمها في الفلسفة كتابه القيِّم: «الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد»، وعَدَّه بعض المستشرقين واحداً من اثنتي عشرة شخصية تُمَثِّل قمة الفكر الإنساني.
هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران الكندي. يرقى بنسبه إلى ملوك قبيلة كنده القحطانية التي موطنها في حضرموت وعمان. ولد في مدينة الكوفة عام 184 هجرية، موافق 800 ميلادية على أرجح الروايات التاريخية، وكان والده أميراً عليها في عهدي المهدي وهارون الرشيد. بلغ منزلة كبيرة لدى المأمون وخليفته المعتصم الذي عينه مدرساً خصوصياً لأبنائه.
توفي أبوه إسحاق بن الصباح الكندي في أواخر عهد هارون الرشيد وكان عُمره نحو 6 سنوات، بعد وفاة أبيه، أخذت الأم أسرتها وعادت إلى دارها في الكوفة؛ حيث شَهِدَ الكندي سني صباه الأولى. ومع أن الكندي كان يتيماً، إلا أنه كان من أغنى أغنياء الكوفة، فقد كان يسكُن في بيت كالقصر ذي حديقة كبيرة، كواحد من أبناء الملوك.
نشأ الكندي في البصرة ودرس بها، وتتلمذ على يد أشهر العلماء في بغداد، وتعلَّم في سني صباه ما يتعلمه كل صبي مسلم، مثل القراءة والكتابة والنحو وحفظ القرآن وكثيرٍ من الأحاديث النبوية الشريفة ومبادئ الفقه والكثير من الأشعار وأصول الفصاحة.
كانت الدراسة في الكوفة حرة، أي للطالب حرية اختيار ما يدرُسَهُ، وكان ميل الكندي إلى العلوم الدينية وعلوم الكلام فاتجه إليها ودرسها، ثم أحس بأن ميله إلى الفلسفة أكبر منه إلى العلوم الدينية وعلوم الكلام، فاتخذ قراره بدراسة الفلسفة، فجهز نفسه وقصد بغداد لتعلمها، وتتلمذ على يد أشهر علمائها في علوم شتى.
أقبل الكندي في بغداد على العلوم والمعارف لينهل من معينها؛ وذلك في فترة الإنارة العربية على عهد المأمون والمعتصم، في جو مشحون بالتوتر العقائدي؛ بسبب مشكلة «خلق القرآن» وسيطرة مذهب الاعتزال، وذيوع التشيع، وكان القرن الثالث الهجري يموج بألوان شتى من المعارف القديمة والحديثة؛ وذلك بتأثير حركة النقل والترجمة، فانكب الكندي على الفلسفة والعلوم القديمة حتى حذقها.
برع الكندي في علوم الفلك والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى والفلسفة وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام. ويعد أول الفلاسفة المسلمين، كما اشتهر بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية.
عُرف عن الكندي أنه كان أشهر مُترجِمِي عصره، الذي نبغ فيه عدد من المترجمين المشهورين، حتى سُمِّيَ ذلك العصر بعصر الترجمة، وذكر أحد المؤرخين أن حُذاق الترجمة في الإسلام أربعة أحدهم الكندي، وعده ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» من حذاق الترجمة في الإسلام إلى جانب حنين بن إسحاق وثابت بن قرة وعمر بن الفرخان الطبري. وكان من أوائل مترجمي المؤلفات اليونانية إلى العربية.
ألحقه الخليفة المأمون بالعمل كمترجم في بيت الحكمة، وبرع في هذه المهمة، وكلفه الخليفة بترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان، كما كان الكندي عارفاً بالسريانية وترجم العديد من الكتب من هذه اللغة إلى العربية من بينها كتاب بطليموس «الجغرافيا في المعمور من الأرض». ومكنته هذه المهنة من الاطلاع الواسع على أمهات كتب المعرفة لدى اليونان والهند والفرس في شتى المجالات ودراستها والاستفادة منها.
ويقول د. أحمد فؤاد الأهواني، مؤلف كتاب «الكندي فيلسوف العرب»: إن القدماء اختلفوا في النعت الذي يلقب به فسماه بعضهم فيلسوف العرب، وأطلق عليه البعض الآخر فيلسوف الإسلام، ويقول عنه ابن النديم في «الفهرست»: «فاضل دهره، وواحد عصره، في معرفة العلوم القديمة بأسرها، ويسمى فيلسوف العرب»، ويعود ذلك إلى أنه في الفترة التي ظهر فيها الكندي على مسرح الفكر كان معظم المشتغلين بالعلم والفلسفة من السريان والصابئة.
إضافة إلى الفلسفة التي غاص في أعماقها وحاز قصب السبق فيها، برع الكندي في مجالات مختلفة من العلوم منها الطب. وكان له كذلك اهتمام بالرياضيات والفلك، وأورد ابن النديم أسماء ما يزيد على عشرين رسالة ألفها الكندي في الطب غير أنه لم يبق منها ما يمكن الاستدلال منه على منهجه في التطبيب والعلاج. وتبرز إسهاماته في الطب في محاولته تحديد مقادير الأدوية على أسس رياضية، وبذلك يكون الكندي هو أول من حدد بشكل منظم جرعات جميع الأدوية المعروفة في أيامه. ووضع كتباً في الطب والأدوية.
باستخدام خبرته الرياضية والطبية، وضع مقياساً يسمح للأطباء بقياس فاعلية الدواء، كما أجرى تجارب حول العلاج بالموسيقى.
وتذكر المصادر المختلفة قصة، لم تثبت صحتها؛ لكنها تشير إلى ما عُرف عن براعة الكندي في الطب ورسوخ قدمه في هذه الصناعة. وتذكر القصة أن أحد جيران الكندي كان من كبار التجار وأصيب ابنه بسكتة فجأة فلم يدع في مدينة السلام (بغداد) طبيباً إلا ركب إليه؛ طلباً للعلاج لكن دون جدوى، فقيل له: أنت في جوار فيلسوف زمانه، وأعلم الناس بعلاج هذه العلة. ودعا التاجر، الكندي للحضور وألح عليه فأجاب. فلما رأى حال ابن التاجر استدعى أربعة من تلاميذه في علم الموسيقى ممن أتقن ضرب العود. وأمرهم بأن يديموا العزف عند رأس المريض بأنغام حددها لهم. فلم يزالوا يعزفون حتى قوي نبض المريض وبدأ يتحرك ثم جلس وتكلم. ويقول أحمد سعيد الدمرداش في مبحثه حول «تاريخ الفيزيقا عند العرب» إن الكندي هو صاحب أول مدرسة للموسيقى في الإسلام، وتطورت هذه المدرسة فيما بعد على يد الفارابي.
ومن أشهر كتب الكندي في هذا المجال والتي ظلت مرجعاً لمن بعده «كتاب في خبر صناعة التأليف»، و«كتاب في المصوتات الوترية» و«الرسالة الكبرى في التأليف»، والسلم الموسيقي عند الكندي هو نفسه سلم الموسيقى العربية المستعمل اليوم ويشتمل على اثنتي عشرة نغمة.
أما في الكيمياء، فقد عارض الفكرة القائلة بإمكانية استخراج المعادن الكريمة أو الثمينة كالذهب، من المعادن الخسيسة. وكتب في ذلك رسالة سماها «كتاب التنبيه على خدع الكيمياويين»، كما ألف رسالة سماها «رسالة في كيمياء العطر والتصعيدات»، تناول فيها صنع أنواع كثيرة من العطور المعروفة آنذاك كالمسك، وذكر عدداً من الطرائق لتحضيره. كما تطرق الكندي في هذه الرسالة إلى عمليات كيمائية عديدة كالترشيح.
ألف الكندي رسالة ثالثة سماها «كتاب الجواهر» صنفها إلى أنواعها واتخذها البيروني فيما بعد أحد مصادره في كتابه «الجماهر في معرفة الجواهر». وفي رسالته حول السيوف وأنواعها تطرق الكندي إلى تعدين الحديد وأنواعه ووصف طرائق صنعها من حيث كمية المواد والمدة التي يتعرض فيها الحديد إلى النار وكيفية التبريد. ويعتبر د. فاضل أحمد الطائي في مؤلفه «أعلام العرب في الكيمياء» هذه الرسالة أول دليل مختبر في الكيمياء الصناعية.
توفي الكندي العالم الطبيب الفيلسوف عام 252 هجرية، 866 ميلادية عن عمر يناهز 68 عاماً وكان سبب وفاته، أنه أصيب بداء في ركبته انتقل إلى رأسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"