أين تقيم المدن حين تكون في المنفى؟

سؤال القدس
04:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد الأسعد
(1)
طرح الفنان ابن القدس "ستيف سابيلا" المقيم في برلين هذا السؤال في سياق مشروعه الفني/الأدبي المسمى "القدس في المنفى" . كانت بداية المشروع حالة فكرية تميزت بإحساس بالنفي الفكري، لا الجسدي، عاشه الفنان المولود في القدس تحت الاحتلال "الإسرائيلي"، أي في بيئة تعمل هذه السلطة الاستعمارية على تأكيد نفوذها فيها على الأرض . وازداد هذا الإحساس حدة خلال الانتفاضة الثانية حين سجنت "إسرائيل" وقيدت وخنقت المدينة بإنشاء جدار بارتفاع ثمانية أمتار، أو تسعة في بعض المناطق، يمتد من القدس إلى فلسطين الشرقية، وسيبلغ طول هذا الجدار حسب المخطط 709 كيلومترات . الجدار يقسم القدس ذاتها . وفي ظل هكذا وضعية، لفت نظر الفنان "سابيلا" وصف طرحه الفنان "كمال بلاطة" لحالته: "إنه فنان يعيش في المنفى حتى وإن كان يعيش في القدس" . وهذا هو بالفعل الواقع الذي يعيشه وإن لم يكن يعيه كما يقول . أدرك الفنان "سابيلا" أنه ليس في المنفى جسدياً، إلا أنه يمرّ بعملية اغتراب فكري تقود إلى شكل فريد من أشكال "المنفى الفكري" . وعلى هذه الحالة يعلق بالقول: "أحسستُ بأنني منفي في مدينة مولدي ذاتها التي بدأتُ إدراكها ورؤيتها كأرض أجنبية . ومع ذلك، لا يكفي هذا لتفسير حالة التشظي والاقتلاع والارتباك التي يمرّ بها المنفيون الحقيقيون" .
لهذه الحالة وظيفة أكبر من هذا، لديها شيء تفعله مع "واقع" قائم على الأرض، ذلك الذي أطلق حالته الفكرية . ولا يمكن تفسير هذه الحالة إلا بكون الفنان لم يعد بطريقة أو بأخرى يعيش في القدس . هو لم يكن في المنفى جسدياً، بل القدس هي المنفية . ويتبع هذا أن كل من يعيش في القدس عليه أن يشعر بأنه خارج المكان ومغترب . والمفارقة هي أن من يُكرهون على العيش في المنفى يكون هناك بلد آخر يقبل إقامتهم المؤقتة، ولكن أين تقيم المدن حين تكون في المنفى؟
وسيولد هذا السؤال عدداً من التداعيات، لم يقبل بلد آخر القدس لتكون مدينة ضمن حدوده، ويبدو أن القدس وجدت لها ملجأ إما في عقول الناس الذين يتذكرونها ويتخيلونها، أو أنها عادت إلى "رحاب السماء" . وقادت هذه التداعيات إلى ولادة مشروع فني أطلق عليه "سابيلا" بالمشاركة مع الشاعر نجوان درويش، اسم: "القدس في المنفى" . وملخصه استكشافٌ وبحثٌ عن صورٍ بصرية للقدس في عقول الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم . والأساس هو افتراض أن القدس كمدينة موجودة في "المنفى"، حيث يمنع الفلسطينيون من دخولها . وبما أنهم في المنفى من المحتم والطبيعي أن يشكل الفلسطينيون صورة فكرية للمدينة .

(2)
حين نتذكر الأشياء نميل إلى تذكرها على شكل صور . الصور هي أدوات الذاكرة، تلك التي تمر بمراحل إعادة تحرير تسقط منها تفاصيل أو تتغير مع الزمن . ويصبح واقعنا سجين الصور أو مقيداً من قبلها، صور واقعية وأخرى ذهنية . وكانت القدس في المنفى مهمة في صور أصبحت بفعل التعدد وتفوق إحداها على الأخرى أفكاراً معلقة . واستقر المشروع طوال سنوات على هذه الصور الذهنية المنبعثة من الذاكرة، واتجه نحو نقلها إلى صور فوتوغرافية وتحريرها . وسعى الجهد الفني إلى إنشاء إدراك متجدد للقدس، وسعى المشروع أيضاً إلى تحرير القدس من الشعارات والمقولات النمطية وإعادة إنشاء علاقة بها أكثر حيوية . وتشارك الفلسطينيون في هذا المشروع واستكشفوا عبر نصوص وجهات نظر مختلفة في القدس والهوية والمنفى .
واعتنى البرنامج بتجسيد مختلف الصور الفكرية التي لدى الفلسطينيين في ذاكرتهم ومخيلتهم فوتوغرافياً . صحيح أن القدس حظيت بتصوير فوتوغرافي أكثر من أي مدينة في العالم، ومع ذلك، كما يقول "سابيلا": "لقد وصلنا مرحلة تحتاج فيها القدس إلى تحرر بصري" . ولتحقيق هذا، هناك حاجة لإضافة بعد جديد إلى الصور الفوتوغرافية، بعدٌ موجودٌ فينا، عميقاً في المخيلة . ويتطلب الوصول إلى هذا البعد نظرة معمقة، رحلة في عقول الكثير من الناس حيث سيتوحدون في "إعادة بناء" و"إنشاء" شكل مختلف للقدس .

(3)
يقول "سابيلا": "في مشروع القدس في المنفى، تعلمنا أن صورة القدس إنشاء قد لايعكس الحقيقة بالضرورة . فما الذي نعتبره واقعياً؟ يمكن أن تمر الصور الذهنية من جيل إلى آخر، وصولاً إلى جيل من المحتمل أنه لم يطأ أرض القدس بقدميه . أحد الأطفال المشاركين اعتقد أن القدس تقوم على شاطئ البحر! ويظهر هذا أن الصور الفكرية تتشوه بمرور الزمن" .
في المراحل الأولى من المشروع كان القصدان الرئيسيان هما طرح سؤال التلوث البصري في القدس، وتحرير المدينة بصرياً . فإذا كان بالإمكان منع الأجساد من الدخول، تصبح فكرة أن بإمكان الأفكار والصور اختراق الجدران فكرة محررة . ومع ذلك، وبمرور الوقت، أمكننا المشروع من رؤية الصورة الأكبر، الكائنات الإنسانية ليست هي التي تجبر على الحياة في المنفى فقط، بل والمدن أيضاً . وبناءً على ذلك تتمزق فكرة أنا ننتمي إلى فضاء واحد . وللتعويض عن فقدان الأصل ينشئ البشر "بيتاً" فعلياً جديداً . وقادت هذه الفكرة الفنان إلى التفكير بأن الكائنات الإنسانية تعيش في مدن متخيلة، ووضعية القدس كمدينة منفية ليست فريدة، بل هي شبيهة بالمدن الأخرى في العالم التي تحولت إلى صورة، وفقدت نقطة مرجعها . ومع ذلك هناك اختلاف واحد كبير، سبب تحول القدس يعود إلى استعمار "إسرائيلي" أو أيديولوجية صهيونية، عملاً على إحداث تغاير وتشويه لصورة القدس . والأيديولوجية، كما توصف، شكل وهمي من أشكال التفكير بعيد عن معيار الموضوعية، أو هي علاقة متخيلة بالواقع . وحالياً يعمل هذا الاستعمار على السيطرة على أرشيف المخيلة وتوجيهه لمنفعته، في الوقت الذي يعمل فيه على إنشاء وعي في "العالم الغربي" تقدم فيه صورة للعرب مهزومة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"