الإسلام واجه «قذف المحصنات» بعقوبة رادعة وعادلة

حرصاً على حماية الأعراض من ألسنة السوء
02:23 صباحا
قراءة 6 دقائق

حمت الشريعة الإسلامية أعراض الناس وسمعتهم وكرامتهم،‮ ‬وقررت عقوبات رادعة لكل من‮ ‬يتطاول على أعراض النساء أو الرجال بفعل أو قول،‮ ‬ حرصاً على الحرمات والكرامات،‮ ‬وتوفيراً لكل أشكال الأمن النفسي‮ ‬للأفراد والجماعات‮.‬ ومن بين العقوبات العادلة التي‮ ‬قررتها شريعة الإسلام،‮ ‬حرصاً على أعراض الناس وسمعتهم عقوبة‮ «‬حد القذف‮»‬،‮ ‬وهي‮ ‬عقوبة كما‮ ‬يؤكد علماء الشريعة وأساتذة الفقه، حاسمة وكفيلة بالقضاء على كل ما نشاهده الآن من إسفاف وتطاول على الأعراض سواء في‮ ‬علاقات الناس بعضهم ببعض،‮ ‬أو عن طريق بعض وسائل الإعلام التي‮ ‬تمارس إسفافا‮ً ‬يمس بالأعراض ويشوه السمعة.
وعقوبة القذف ورد النص عليها في‮ ‬القرآن الكريم في‮ ‬قول الحق سبحانه‮: «‬والذين‮ ‬يرمون المحصنات ثم لم‮ ‬يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون».
القذف معناه‮ «‬الرمي‮»‬،‮ ‬والمراد به هنا‮: ‬الشتم بفاحشة الزنى أو ما‮ ‬يستلزمه كالطعن في‮ ‬النسب‮.. ‬والمراد ب«المحصنات‮»‬،‮ ‬النساء العفيفات الطاهرات البعيدات عن كل ريبة وشبهة،‮ ‬وسميت المرأة العفيفة بذلك لأنها تمنع نفسها من كل سوء‮.‬
والإحصان‮ ‬يطلق على المرأة والرجل إذا توافرت فيهما صفات العدالة والاستقامة،‮ ‬والالتزام بالإسلام وآدابه وأخلاقياته،‮ ‬والإعفاف الكريم عن طريق الزواج،‮ ‬وغير ذلك من الصفات الكريمة‮.‬
والله سبحانه وتعالى خص النساء بالذكر هنا كما‮ ‬يقول د‮. ‬القصبي‮ ‬زلط‮ ‬أستاذ التفسير وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر لأن قذف النساء أشنع،‮ ‬والعار الذي‮ ‬يلحق بهن جراء هذا السلوك القبيح ممن قذفهن أشد وأكثر خطراً‮.. ‬لكن الرجال والنساء في‮ ‬الحكم هنا سواء‮.‬ وعقوبة قذف المحصنات الوارد النص عليها في‮ ‬القرآن الكريم كما‮ ‬يقول عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر عادلة ورادعة،‮ ‬وتؤكد حرص الإسلام الواضح على الأدب الرفيع بين الناس،‮ ‬وعلى أن‮ ‬يتعامل الجميع بالكلمة الطيبة،‮ و‬يبتعدوا عن الكلمة القبيحة،‮
وذلك لأن إلصاق التهم الباطلة بالشرفاء وخاصة النساء يهدد استقرار المجتمع، وقد توعد الله سبحانه وتعالى من يرتكب جريمة القذف بهذه العقوبة المناسبة لجرمه، ‬فكل من‮ ‬يتورط في‮ هذه الجريمة ولا ‬يأتي بأربعة شهود عدول على ما أدعى وأشاع بين الناس فلابد أن‮ ‬ينال عقابه الرادع وهو‮ «‬الجلد ثمانون جلدة‮»‬،‮ ‬وهناك عقوبتان أكثر قسوة هما عدم قبول شهادته،‮ ‬ونعته بالفسق،‮ ‬وما أقبحها من صفة‮.‬

3 عقوبات

ويضيف: إن الآية الكريمة ترشدنا إلى كيفية التصرف مع المتطاولين المسفين الذين‮ ‬يستهينون بأعراض النساء،‮ ‬وتقول‮: ‬الذين‮ ‬يرمون النساء الطاهرات المؤمنات بفاحشة الزنى،‮ ‬ثم لم‮ ‬يأتوا بأربعة شهداء‮ ‬يشهدون لهم على صحة ما قذفوهن به فاجلدوهم والخطاب هنا موجه إلى الحكام أو القضاء ثمانين جلدة عقاباً لهم على ما تفوّهوا به من سوء في‮ ‬حق هؤلاء المحصنات،‮ ‬ولا تقبلوا لهؤلاء القاذفين شهادة أبداً بسبب حماقتهم في‮ ‬إلصاق التهم الكاذبة بالأبرياء‮.‬
ثم نعت الله هؤلاء الذين‮ ‬يمارسون جريمة قذف المحصنات بصفة كريهة ومرفوضة لكل إنسان‮ ‬يحمل شعوراً بالكرامة وعزة النفس،‮ ‬وهي‮ ‬قوله سبحانه‮: «‬وأولئك هم الفاسقون‮»‬،‮ ‬أي،‮ ‬الخارجون عن أحكام شريعة الله تعالى وعن آدابها السامية‮.‬
إذن العقاب الإلهي‮ ‬لمن‮ ‬يتورطون في‮ ‬جريمة قذف المحصنات‮ ‬يتمثل في‮ ‬3‮ ‬عقوبات رادعة هي‮:‬
‮ «‬الجلد ثمانون جلدة‮»‬،‮ ‬وهي‮ ‬عقوبة حسية قريبة من عقوبات الزنى،‮ ‬حيث توقع على الزناة عقوبة الجلد مئة جلدة على‮ ‬غير المحصنين أي‮ ‬غير المتزوجين والرجم حتى الموت على المحصنين،‮ ‬أي‮ ‬المتزوجين،‮ ‬لأن لديهم ما‮ ‬يعفّون به أنفسهم بعيداً عن هذه الجريمة النكراء‮.‬
عدم قبول شهادة القاذفين،‮ ‬وهذا إهدار لكرامتهم،‮ ‬فهم منبوذون،‮ ‬وأقوالهم‮ ‬غير مصدقة عند الناس،‮ ‬لأنهم‮ ‬يمارسون أبشع صور الكذب،‮ ‬ولو شهدوا لا تقبل شهادتهم،‮ ‬حيث لم‮ ‬يعودوا محل ثقة من الآخرين‮.‬
وصفهم بالفسق،‮ ‬وهي‮ ‬عقوبة دينية‮ ‬يستحقونها،‮ ‬حيث خرجوا عن طاعة الله وعن آداب وأخلاقيات دينه‮.‬
فنحن هنا أمام ثلاث عقوبات متنوعة‮ ‬يستحقها من‮ ‬يمارسون جريمة القذف‮: ‬الأولى حسية،‮ ‬وهي‮ ‬الجلد،‮ ‬والثانية معنوية وهي‮ ‬عدم قبول شهاداتهم وإسقاط اعتبارهم في‮ ‬نظر الناس الذين‮ ‬يتعاملون معهم،‮ ‬والثالثة عقوبة دينية وهي‮ ‬الحكم عليهم بالفسق،‮ ‬وهم‮ ‬يستحقون كل ذلك حيث لم‮ ‬يقدروا حجم الجرم الذي‮ ‬يرتكبونه باتهامهم الشرفاء بتهمة قاسية تسيء إليهم وإلى أسرهم‮.‬

جريمة خطرة

‮* ‬لكن‮.. ‬لماذا كان هذا التشدد في‮ ‬التعامل مع من‮ ‬يمارسون خطيئة تشويه سمعة الشرفاء؟
‮- ‬يقول الفقيه الأزهري‮ ‬د‮. ‬نصر فريد واصل،‮ ‬مفتي‮ ‬مصر الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر‮: ‬هؤلاء‮ ‬يمارسون جريمة أخلاقية لها خطرها على المجتمع كله ولابد من ردعهم لصرفهم عن هذه الجريمة وتحقيق الردع والزجر اللازم لكل من تسول له نفسه اتهام الشرفاء وتدنيس سمعة وشرف الأبرياء‮.‬
ويضيف‮: ‬ليس في‮ ‬هذه العقوبة قسوة كما‮ ‬يتوهم البعض،‮ ‬بل فيها العدل كل العدل،‮ ‬والرحمة بالمجتمع كله،‮ ‬فكم من أسر انهارت بسبب شائعة كاذبة أو تهمة ظالمة،‮ ‬وكم من معارك نشبت بين أسر وعائلات سقط فيها العشرات من القتلى والمصابين بسبب تهمة أو كلمة سيئة قيلت في‮ ‬حق امرأة وجد أهلها في‮ ‬ذلك إساءة لهم جميعاً،‮ ‬فهبّوا‮ ‬يقتلون ويحرقون ويدمرون دفاعاً عن شرفهم وكرامتهم وسمعتهم الطيبة وصورتهم الحسنة بين الناس‮.‬
من هنا‮ ‬يؤكد د‮. ‬واصل أن هدف التشدد مع هذه الجريمة هو توفير الحماية لأعراض المسلمين والمسلمات من ألسنة السوء وصيانة سمعة الشرفاء من كل ما‮ ‬يخدش كرامتهم ويجرح عفافهم،‮ ‬فما أقسى على النفوس الحرة الشريفة الطاهرة أن تلصق بها التهم الباطلة‮.‬

شروط وضوابط

وكعادة الشريعة الإسلامية في‮ ‬كل تشريعاتها وأحكامها المتعلقة بالعقوبات أحاطت تطبيق عقوبة القذف بشروط وضوابط من شأنها تحقق العدالة ومنع وقوع أي‮ ‬قدر من الظلم على من تطبق عليهم العقوبة‮.‬
يقول د‮. ‬واصل‮: ‬هناك شروط وضوابط حددها الفقهاء كشروط ضابطة للتطبيق الصحيح،‮ ‬بعضها‮ ‬يتعلق بالقاذف،‮ والآخر بالمقذوف وأيضاً المقذوف به‮.‬
فمن أهم الشروط التي‮ ‬يجب أن تتوافر في‮ ‬القاذف لكي‮ ‬تقام عليه عقوبة القذف أن‮ ‬يكون‮ «‬بالغاً وعاقلاً مختاراً‮»‬،‮ ‬لأن هذه الأمور من أصول التكليف،‮ ‬وإذا لم تتوافر لا‮ ‬يكون الشخص مكلفاً،‮ ‬وبالتالي‮ ‬لا تطبق عليه العقوبة‮.‬
أما بالنسبة للمقذوف الشخص الذي‮ ‬يتعرض للقذف فقد اشترط فيه الفقهاء أيضاً‮ «‬العقل‮»‬،‮ ‬لأن من فقد عقله لا‮ ‬يتعلق ضرر كبير بقذفه،‮ ‬وهذا لا‮ ‬يمنع من تأديب قاذفه بعقوبة أخرى تعزيرية،‮ ‬حتى لا نسيء الأدب في‮ ‬التعامل مع هؤلاء الذين حرمهم الله من نعمة العقل والتمييز‮.‬
أيضا،‮ ‬لابد أن‮ ‬يكون الشخص المقذوف بالغاً،‮ ‬فلا‮ ‬يقام الحد على قاذف الصغير والصغيرة،‮ ‬لكن لابد أن‮ ‬يعاقب من‮ ‬يفعل ذلك حماية للصغار من حماقة الكبار وسوء أدبهم وتطاولهم على خلق الله من دون أدلة وبراهين‮.‬
ومن الشروط التي‮ ‬يجب توافرها في المقذوف وتوجب إقامة حد القذف على القاذف أن‮ ‬يكون المقذوف متمتعاً بحسن السمعة بين الناس،‮ ‬وأن‮ ‬يكون معروفاً في‮ ‬محيطه الاجتماعي‮ ‬بالاستقامة والعفاف والعدالة،‮ ‬لأن المنحرفين من المتوقع منهم ارتكاب الفواحش والمنكرات‮.‬
واشترط الفقهاء أيضاً أن تكون الألفاظ المقذوف بها الشخص، واضحة الدلالة والمعنى‮.‬
يقول د‮. ‬واصل‮: ‬الفقهاء قسموا الألفاظ في‮ ‬القذف إلى ثلاثة أقسام هي‮:‬
الألفاظ الصريحة الواضحة،‮ ‬كأن‮ ‬يقول شخص بالغ‮ ‬عاقل لامرأة بالغة عاقلة‮ «‬أنت زانية‮». ‬ففي‮ ‬هذه الحالة‮ ‬يجب إقامة الحد على هذا القاذف إذا ثبت كذبه،‮ ‬ولم‮ ‬يأت بأربعة شهود‮ ‬يؤيدونه في‮ ‬قوله‮.‬
ألفاظ الكنايات كأن‮ ‬يقول رجل لأمراة‮ «‬أنت فاسقة‮» ‬أو‮ «‬أنت امرأة لعوب‮»‬،‮ ‬ففي‮ ‬هذه الحالة انقسم الفقهاء فقال معظمهم لا‮ ‬يقام عليه الحد ولكن‮ ‬يعاقب بعقوبات أخرى مناسبة،‮ ‬ويرى بعضهم وجوب إقامة الحد عليه حتى لا‮ ‬يعود إلى التلفظ بهذه الألفاظ السيئة مرة أخرى‮.‬
ألفاظ تحمل معنى التعريض،‮ ‬كأن‮ ‬يقول البالغ‮ ‬العاقل لآخر مثله وهما‮ ‬يتنازعان ويتشاجران‮ «‬أنا لست بزان ولا أنا ابن زانية‮»‬،‮ ‬وما‮ ‬يشبه ذلك من العبارات المقصود منها ضمناً اتهام من‮ ‬يتشاجر معه بأنه زان وأمّه زانية،‮ ‬وهنا‮ ‬يرى بعض الفقهاء كما‮ ‬يوضح د‮. ‬واصل أن قائل هذا الكلام‮ ‬يعاقب بما‮ ‬يراه القاضي‮ ‬مناسباً،‮ ‬لكن لا‮ ‬يقام عليه الحد،‮ ‬لأن ألفاظ التعريض تحتمل القذف وغيره‮.‬

متى تثبت التهمة؟

وقد أجمع العلماء على أن حد القذف‮ ‬يثبت بإقرار القاذف على نفسه بأنه قصد من كلامه قذف‮ ‬غيره من البالغين العقلاء ورميهم بفاحشة الزنى،‮ ‬كما تثبت التهمة بشهادة رجلين عدلين بأن فلاناً العاقل البالغ‮ ‬قد قال في‮ ‬حق‮ ‬غيره من البالغين العقلاء أو كتب في‮ ‬حقهم ما‮ ‬يدل دلالة قوية على اتهامهم بالزنى‮.‬ وهنا‮ ‬يجب إقامة الحد على القاذف إلا إذا أتى بأربعة شهداء‮ ‬يشهدون معه بأنه بريء مما نسب إليه،‮ ‬وكانت شهاداتهم مقبولة‮.‬
وحد القذف‮ ‬يراه بعض الفقهاء من حقوق الله ويترتب على ذلك أنه إذا بلغ‮ ‬الحاكم وجب عليه إقامته حتى ولو لم‮ ‬يطلب المقذوف إقامته،‮ ‬ولا‮ ‬يسقط بعفوه،‮ ‬لكن جمهور الفقهاء‮ ‬يصنفونه ضمن حقوق العباد،‮ ‬وبالتالي‮ ‬لا‮ ‬يجوز للحاكم أن‮ ‬يقيم الحد إلا إذا طالب المقذوف بإقامته ويسقط بعفوه وختاما‮.. ‬ما أحوجنا في‮ ‬العالم الإسلامي‮ ‬إلى عقوبات رادعة لوقف تطاول المتطاولين على الأعراض،‮ ‬بعد أن انتشر التطاول والإسفاف على ألسنة الناس من دون مراعاة لحرمة دينية ولا لمكانة اجتماعية ولا اعتبار لشرف أو كرامة‮.‬
ما أحوجنا - نحن المسلمين - إلى التأدب بأدب الإسلام والكف عن هذا العبث،‮ ‬وعلينا أن نتأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‮: «‬المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‮»‬،‮ ‬وقوله عليه الصلاة والسلام‮: «‬اجتنبوا السبع الموبقات؟ قالوا‮: ‬يا رسول الله وما هن؟ قال‮: «‬الشرك بالله،‮ ‬والسحر،‮ ‬وقتل النفس التي‮ ‬حرم الله إلا بالحق،‮ ‬وأكل الربا،‮ ‬وأكل مال اليتيم،‮ ‬والتولي‮ ‬يوم الزحف،‮ ‬وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات‮».‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"