حمت الشريعة الإسلامية أعراض الناس وسمعتهم وكرامتهم، وقررت عقوبات رادعة لكل من يتطاول على أعراض النساء أو الرجال بفعل أو قول، حرصاً على الحرمات والكرامات، وتوفيراً لكل أشكال الأمن النفسي للأفراد والجماعات. ومن بين العقوبات العادلة التي قررتها شريعة الإسلام، حرصاً على أعراض الناس وسمعتهم عقوبة «حد القذف»، وهي عقوبة كما يؤكد علماء الشريعة وأساتذة الفقه، حاسمة وكفيلة بالقضاء على كل ما نشاهده الآن من إسفاف وتطاول على الأعراض سواء في علاقات الناس بعضهم ببعض، أو عن طريق بعض وسائل الإعلام التي تمارس إسفافاً يمس بالأعراض ويشوه السمعة.
وعقوبة القذف ورد النص عليها في القرآن الكريم في قول الحق سبحانه: «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون».
القذف معناه «الرمي»، والمراد به هنا: الشتم بفاحشة الزنى أو ما يستلزمه كالطعن في النسب.. والمراد ب«المحصنات»، النساء العفيفات الطاهرات البعيدات عن كل ريبة وشبهة، وسميت المرأة العفيفة بذلك لأنها تمنع نفسها من كل سوء.
والإحصان يطلق على المرأة والرجل إذا توافرت فيهما صفات العدالة والاستقامة، والالتزام بالإسلام وآدابه وأخلاقياته، والإعفاف الكريم عن طريق الزواج، وغير ذلك من الصفات الكريمة.
والله سبحانه وتعالى خص النساء بالذكر هنا كما يقول د. القصبي زلط أستاذ التفسير وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر لأن قذف النساء أشنع، والعار الذي يلحق بهن جراء هذا السلوك القبيح ممن قذفهن أشد وأكثر خطراً.. لكن الرجال والنساء في الحكم هنا سواء. وعقوبة قذف المحصنات الوارد النص عليها في القرآن الكريم كما يقول عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر عادلة ورادعة، وتؤكد حرص الإسلام الواضح على الأدب الرفيع بين الناس، وعلى أن يتعامل الجميع بالكلمة الطيبة، ويبتعدوا عن الكلمة القبيحة،
وذلك لأن إلصاق التهم الباطلة بالشرفاء وخاصة النساء يهدد استقرار المجتمع، وقد توعد الله سبحانه وتعالى من يرتكب جريمة القذف بهذه العقوبة المناسبة لجرمه، فكل من يتورط في هذه الجريمة ولا يأتي بأربعة شهود عدول على ما أدعى وأشاع بين الناس فلابد أن ينال عقابه الرادع وهو «الجلد ثمانون جلدة»، وهناك عقوبتان أكثر قسوة هما عدم قبول شهادته، ونعته بالفسق، وما أقبحها من صفة.
3 عقوبات
ويضيف: إن الآية الكريمة ترشدنا إلى كيفية التصرف مع المتطاولين المسفين الذين يستهينون بأعراض النساء، وتقول: الذين يرمون النساء الطاهرات المؤمنات بفاحشة الزنى، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون لهم على صحة ما قذفوهن به فاجلدوهم والخطاب هنا موجه إلى الحكام أو القضاء ثمانين جلدة عقاباً لهم على ما تفوّهوا به من سوء في حق هؤلاء المحصنات، ولا تقبلوا لهؤلاء القاذفين شهادة أبداً بسبب حماقتهم في إلصاق التهم الكاذبة بالأبرياء.
ثم نعت الله هؤلاء الذين يمارسون جريمة قذف المحصنات بصفة كريهة ومرفوضة لكل إنسان يحمل شعوراً بالكرامة وعزة النفس، وهي قوله سبحانه: «وأولئك هم الفاسقون»، أي، الخارجون عن أحكام شريعة الله تعالى وعن آدابها السامية.
إذن العقاب الإلهي لمن يتورطون في جريمة قذف المحصنات يتمثل في 3 عقوبات رادعة هي:
«الجلد ثمانون جلدة»، وهي عقوبة حسية قريبة من عقوبات الزنى، حيث توقع على الزناة عقوبة الجلد مئة جلدة على غير المحصنين أي غير المتزوجين والرجم حتى الموت على المحصنين، أي المتزوجين، لأن لديهم ما يعفّون به أنفسهم بعيداً عن هذه الجريمة النكراء.
عدم قبول شهادة القاذفين، وهذا إهدار لكرامتهم، فهم منبوذون، وأقوالهم غير مصدقة عند الناس، لأنهم يمارسون أبشع صور الكذب، ولو شهدوا لا تقبل شهادتهم، حيث لم يعودوا محل ثقة من الآخرين.
وصفهم بالفسق، وهي عقوبة دينية يستحقونها، حيث خرجوا عن طاعة الله وعن آداب وأخلاقيات دينه.
فنحن هنا أمام ثلاث عقوبات متنوعة يستحقها من يمارسون جريمة القذف: الأولى حسية، وهي الجلد، والثانية معنوية وهي عدم قبول شهاداتهم وإسقاط اعتبارهم في نظر الناس الذين يتعاملون معهم، والثالثة عقوبة دينية وهي الحكم عليهم بالفسق، وهم يستحقون كل ذلك حيث لم يقدروا حجم الجرم الذي يرتكبونه باتهامهم الشرفاء بتهمة قاسية تسيء إليهم وإلى أسرهم.
جريمة خطرة
* لكن.. لماذا كان هذا التشدد في التعامل مع من يمارسون خطيئة تشويه سمعة الشرفاء؟
- يقول الفقيه الأزهري د. نصر فريد واصل، مفتي مصر الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: هؤلاء يمارسون جريمة أخلاقية لها خطرها على المجتمع كله ولابد من ردعهم لصرفهم عن هذه الجريمة وتحقيق الردع والزجر اللازم لكل من تسول له نفسه اتهام الشرفاء وتدنيس سمعة وشرف الأبرياء.
ويضيف: ليس في هذه العقوبة قسوة كما يتوهم البعض، بل فيها العدل كل العدل، والرحمة بالمجتمع كله، فكم من أسر انهارت بسبب شائعة كاذبة أو تهمة ظالمة، وكم من معارك نشبت بين أسر وعائلات سقط فيها العشرات من القتلى والمصابين بسبب تهمة أو كلمة سيئة قيلت في حق امرأة وجد أهلها في ذلك إساءة لهم جميعاً، فهبّوا يقتلون ويحرقون ويدمرون دفاعاً عن شرفهم وكرامتهم وسمعتهم الطيبة وصورتهم الحسنة بين الناس.
من هنا يؤكد د. واصل أن هدف التشدد مع هذه الجريمة هو توفير الحماية لأعراض المسلمين والمسلمات من ألسنة السوء وصيانة سمعة الشرفاء من كل ما يخدش كرامتهم ويجرح عفافهم، فما أقسى على النفوس الحرة الشريفة الطاهرة أن تلصق بها التهم الباطلة.
شروط وضوابط
وكعادة الشريعة الإسلامية في كل تشريعاتها وأحكامها المتعلقة بالعقوبات أحاطت تطبيق عقوبة القذف بشروط وضوابط من شأنها تحقق العدالة ومنع وقوع أي قدر من الظلم على من تطبق عليهم العقوبة.
يقول د. واصل: هناك شروط وضوابط حددها الفقهاء كشروط ضابطة للتطبيق الصحيح، بعضها يتعلق بالقاذف، والآخر بالمقذوف وأيضاً المقذوف به.
فمن أهم الشروط التي يجب أن تتوافر في القاذف لكي تقام عليه عقوبة القذف أن يكون «بالغاً وعاقلاً مختاراً»، لأن هذه الأمور من أصول التكليف، وإذا لم تتوافر لا يكون الشخص مكلفاً، وبالتالي لا تطبق عليه العقوبة.
أما بالنسبة للمقذوف الشخص الذي يتعرض للقذف فقد اشترط فيه الفقهاء أيضاً «العقل»، لأن من فقد عقله لا يتعلق ضرر كبير بقذفه، وهذا لا يمنع من تأديب قاذفه بعقوبة أخرى تعزيرية، حتى لا نسيء الأدب في التعامل مع هؤلاء الذين حرمهم الله من نعمة العقل والتمييز.
أيضا، لابد أن يكون الشخص المقذوف بالغاً، فلا يقام الحد على قاذف الصغير والصغيرة، لكن لابد أن يعاقب من يفعل ذلك حماية للصغار من حماقة الكبار وسوء أدبهم وتطاولهم على خلق الله من دون أدلة وبراهين.
ومن الشروط التي يجب توافرها في المقذوف وتوجب إقامة حد القذف على القاذف أن يكون المقذوف متمتعاً بحسن السمعة بين الناس، وأن يكون معروفاً في محيطه الاجتماعي بالاستقامة والعفاف والعدالة، لأن المنحرفين من المتوقع منهم ارتكاب الفواحش والمنكرات.
واشترط الفقهاء أيضاً أن تكون الألفاظ المقذوف بها الشخص، واضحة الدلالة والمعنى.
يقول د. واصل: الفقهاء قسموا الألفاظ في القذف إلى ثلاثة أقسام هي:
الألفاظ الصريحة الواضحة، كأن يقول شخص بالغ عاقل لامرأة بالغة عاقلة «أنت زانية». ففي هذه الحالة يجب إقامة الحد على هذا القاذف إذا ثبت كذبه، ولم يأت بأربعة شهود يؤيدونه في قوله.
ألفاظ الكنايات كأن يقول رجل لأمراة «أنت فاسقة» أو «أنت امرأة لعوب»، ففي هذه الحالة انقسم الفقهاء فقال معظمهم لا يقام عليه الحد ولكن يعاقب بعقوبات أخرى مناسبة، ويرى بعضهم وجوب إقامة الحد عليه حتى لا يعود إلى التلفظ بهذه الألفاظ السيئة مرة أخرى.
ألفاظ تحمل معنى التعريض، كأن يقول البالغ العاقل لآخر مثله وهما يتنازعان ويتشاجران «أنا لست بزان ولا أنا ابن زانية»، وما يشبه ذلك من العبارات المقصود منها ضمناً اتهام من يتشاجر معه بأنه زان وأمّه زانية، وهنا يرى بعض الفقهاء كما يوضح د. واصل أن قائل هذا الكلام يعاقب بما يراه القاضي مناسباً، لكن لا يقام عليه الحد، لأن ألفاظ التعريض تحتمل القذف وغيره.
متى تثبت التهمة؟
وقد أجمع العلماء على أن حد القذف يثبت بإقرار القاذف على نفسه بأنه قصد من كلامه قذف غيره من البالغين العقلاء ورميهم بفاحشة الزنى، كما تثبت التهمة بشهادة رجلين عدلين بأن فلاناً العاقل البالغ قد قال في حق غيره من البالغين العقلاء أو كتب في حقهم ما يدل دلالة قوية على اتهامهم بالزنى. وهنا يجب إقامة الحد على القاذف إلا إذا أتى بأربعة شهداء يشهدون معه بأنه بريء مما نسب إليه، وكانت شهاداتهم مقبولة.
وحد القذف يراه بعض الفقهاء من حقوق الله ويترتب على ذلك أنه إذا بلغ الحاكم وجب عليه إقامته حتى ولو لم يطلب المقذوف إقامته، ولا يسقط بعفوه، لكن جمهور الفقهاء يصنفونه ضمن حقوق العباد، وبالتالي لا يجوز للحاكم أن يقيم الحد إلا إذا طالب المقذوف بإقامته ويسقط بعفوه وختاما.. ما أحوجنا في العالم الإسلامي إلى عقوبات رادعة لوقف تطاول المتطاولين على الأعراض، بعد أن انتشر التطاول والإسفاف على ألسنة الناس من دون مراعاة لحرمة دينية ولا لمكانة اجتماعية ولا اعتبار لشرف أو كرامة.
ما أحوجنا - نحن المسلمين - إلى التأدب بأدب الإسلام والكف عن هذا العبث، وعلينا أن نتأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «اجتنبوا السبع الموبقات؟ قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».