التسامح في التعامل مع الآخرين .. أحكام فقهية تأصيلية

22:53 مساء
قراءة 7 دقائق
محمد الشيخ *

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فإن من الأهداف السامية ذات البعد الحضاري لتعاليم شرعنا الإسلامي الحنيف جعلَ المجتمع متصالحاً مع نفسه، مترابطاً فيما بينه، متعاوناً بل متحابّاً، لتَشيع فيه روحُ التسامح، وتتحقق له السعادة والطمأنينة، فيعيش في سلام ووئام.
وسعياً إلى هذا الهدف السامي، دعا الإسلام إلى كل ما من شأنه أن يفسح المجال ويمهد الطريق أمام تحقيقه ويزيل العوائق التي قد تعترض سبيله؛
فحرم كل أمر يؤذي به المسلم أخاه سواء كان قولاً أو فعلاً، مثل الاحتقار بذكر المعايب والتنابز بالألقاب والاستهزاء والسخريةَ لما يسببه ذلك من تنافر القلوب؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بِحَسْب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه» (1).
ورغب في الصفح والعفو عن الجاني لما يثمره العفو من إزالة الأضغان والأحقاد من القلوب؛ قال جل وعلا: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} (2).
بل ذهب أبعد من ذلك فدعا إلى مقابلة إساءته بالإحسان لتنقلب عداوته إلى صداقة ويتحول حقده إلى مودة، قال جل وعلا: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}(3).
وسَنَّ صلاة الجماعة التي من حِكَمها تلاقي رجال الحي ليتفقَّد بعضهم بعضاً، ويتعرفون أحوالهم، فيتم التعاون ويقوى الترابط وتحصل الألفة بين المجتمع.
ونظراً لما لتعامل الأفراد فيما بينهم من دور محوري في تحديد العلاقات من تلاحم وتماسك أو تفكك وتشرذم، فإن شرعنا الحنيف قد ركز عليه تركيزاً خاصاً، فجاءت نصوصه مؤكدة حسن الخلق في معاملة الآخر بالتي هي أحسن بغض النظر عن عرقه أو معتقده.
وتأكيداً على مكانة حسن الخلق وأهميته، ربَط النبي صلى الله عليه وسلم به كمالَ الإيمان فقال: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»(4).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى في ذلك؛ يعامل الناس بأحسن الأخلاق، ويوجههم بلطف وحكمة ويتجاوز عن إساءتهم ولا يواجه أحداً بما يكره، «ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر»(5).
وحُسْنُ الخلق مع الناس يتلخص في طلاقة الوجه وكَفِّ الأذى وبذل المعروف.
وفسره بعضهم بأنه: الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والإحسان في العسر واليسر(6).
والناظر في الأحكام الشرعية في مختلِف المجالات ، خصوصاً في المجالات التي تجمع بين طرفين أو أطراف يجد التسامح مع الآخر حاضراً في أبعادها، سواء تعلق الأمر بالعبادات والمعاملات أو ارتبط بالسلوك والأخلاقيات.
وسنسرد نماذج من الأحكام الفقهية التي تعكس مدى حرص الإسلام على التسامح في التعامل مع الآخر في مختلِف المجالات؛
إعلام الفقير بالزكاة: لا يلزم دافع الزكاة أن يعلم الفقير المستحق بأن ما دفعه إليه زكاة لما في ذلك من جرح ضمير الفقير وكسر خاطره(7).
برور حلِف الأخ: من حلف عليه أخوه بما لا ضرر عليه فيه، فمن حقه عليه أن يُلبِّيَ طلبَه ويَبَرَّ قسَمه، ما لم يكن معصية، وهو من قول الله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)(8).
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه المتفق عليه، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع؛ أمرنا بعيادة المريض... وإبرار القسم أو المقسم، (9)..
تعامل الصائم مع من أساء عليه:
إذا تعرض الصائم لِسَبٍّ أو شتم من غيره فإن الشرع يوجهه إلى أن يتعامل معه بتسامح فيكف نفسه ولسانه عن الرد بالمثل، ويجيب المعتدي بالقول: «إني صائم» ففي ذلك تذكير لنفسه بحالة الكمال التي هو عليها لتتهيأ لأن تصدر عنها أفعال الخير، وفيه تنبيه وتوجيه لمن أساء إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنة فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم»، (10).
المرور أمام المصلي: يحرم المرور بين يدي المصلي إذا لم يُضطَرَّ الإنسان إليه لمنافاته للاحترام ولما فيه من التشويش عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه»(11).
إذا خطب الرجل المرأة ووافقت على الزواج به وتم التراكن بينهما، فلا يجوز لرجل آخر أن يخطُبها لما يؤدي إليه ذلك من الشحناء والبغض، سواء كان الخاطب الأول مسلماً أو غير مسلم(12). لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطُب على خِطبة أخيه إلا أن يأذن له (13).

السماحة في البيع والشراء:
التجارة باب من أوسع الأبواب التي شرعها الله لكسب المال بطريق شرعية، ولم يضع الشرع للربح سقفاً محدداً لا يجوز للتاجر أن يتجاوزه، ومع ذلك فقد رغب في التسامح في الربح والابتعاد عن المغالاة فيه، كما رغب في التحلي بالتسامح في بقية مجالات التعامل الأخرى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى»(14).
وقال صلى الله عليه وسلم:«خذ حقك في عفاف وافٍ أو غير واف»(15).
والسماحة في البيع: ألا يستغل حاجة المشتري فيبالغ في الربح، بل يكتفي بقدر مقبول من الربح.
والسماحة في الشراء: أن يكون سهلاً كيساً فلا يستقصي في المماكسة.
والسماحة في قضاء الحق: أن يعجل قضاء الحق الذي عليه وأن يؤديه بطيب نفس، وأن يدفعه من أفضل ما يجد، إذا كان الحق الذي عليه من المواد التي تتفاضل في الجودة.
والسماحة في الاقتضاء: أن يطلب حقه في رفق ولين.
إنظار المعسر: إذا كان لشخص على آخر دين وثبت أن المدين معسر وجب على صاحب الدين إنظارُ المدين أي: تأخير مطالبته بدينه والصبرُ عليه حتى يقدر على تسديد الدين، وإذا تكرَّم بإسقاط الدين عنه فذلك أفضل؛ قال تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون)(16).
الزيادة على السعر المعتاد في بيع الاستئمان:
بيع الاستئمان هو: أن يقوم المشتري بإخبار البائع جهله بطبيعة السوق ويطلب منه أن يبيع له السلعة التي يريد شراءها بسعرها المعتاد في السوق، وحينئذٍ يجب على البائع أن يعامل المشتري بسماحة ولا يجوز له أن يستغل جهله بالسوق ويبيع له بأكثرَ من السعر المعتاد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «غبن المسترسل رِباً»(17).
الابتعاد عما يسبب الأذى للمصلين:
حض النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الصلاة في الجماعة وبين ما فيها من مضاعفة الثواب، غير أن الشخص إذا ترتب على أدائه للصلاة في الجماعة حصول الأذى والضرر للآخرين حرم عليه حضور الجماعة.
فمن أكل الثوم النّيء وعلقت به رائحته الكريهة التي تؤذي الآخرين حرم عليه أن يدخل المسجد ما دامت الرائحة عالقة به خوف حصول الأذى للمصلين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقرَبَنَّ مسجدنا(18).
اغتسال العائن للمصاب بالعين:
العين أمر ثابت بالنصوص الشرعية ومشاهَد في واقع الناس، وهي سبب في إصابة المَعين كغيرها من الأسباب التي ربط الله بينها وبين مسبَّباتها، «وتكون مع الإعجاب ولو بغير حسد ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح».
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقي من الإصابة بها بقوله في قصة سهل بن حنيف: «ألا برَّكت»(20)، وفي رواية: «إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليَدْعُ له بالبركة»(21).
وبين طريقة التخلص منها بعد الإصابة بأمره بالاسترقاء من العين وبأمره للعائن أن يغتسل للمصاب بالعين، وهذا الأمر محمول على الوجوب على الصحيح. فيجب على العائن إذا طلب منه المصاب أن يغتسل له أن يتعامل معه بتسامح ويلبي طلبه.
الستر على الزلات: ارتكاب الأخطاء في حق الله وفي حق العباد لا يسلم منه البشر سوى من خصهم الله بالعصمة من أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، ومع ذلك فإن الله جل وعلا قد فتح لعباده باب التوبة ورغبهم فيها ووعدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقبول التوبة الصادقة.
وعلى المسلم إذا رأى أخاه ارتكب خطأ أن يعامله بتسامح ويستره ولا ينشر أخطاءه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم «ومن يستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» (25).
كما أن عليه إذا ارتكب إثماً أن يستر نفسه ولا يحدث به أحداً كائناً من كان، ففي الحديث: «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ فليستتر بستر الله وليتب إلى الله» (26 )

هوامش
1- صحيح مسلم (1986)
2- سورة الشورى، الآية: 40
3- سورة فصلت، الآية: 34
4- رواه الترمذي في سننه الحديث رقم: 1152، وقال: حديث حسن صحيح
5- صحيح البخاري، الحديث رقم 2125
6- فيض القدير: 217/3
7- قال العلامة الدردير في الشرح الصغير: ولا يجب إعلام الفقير بل يكره، كما قال اللقاني لما فيه من كسر قلب الفقير. الشرح الصغير 1/666-667)
8- يراجع «منح الجليل في شرح مختصر خليل للعلامة الحطاب (263/3)
9- متفق عليه. صحيح البخاري الحديث: رقم 1239 وصحيح مسلم الحديث رقم 2066
10- الموطأ الحديث رقم 57.
11- متفق عليه صحيح البخاري الحديث رقم 510، وصحيح مسلم الحديث رقم 507.
12- يراجع «التوضيح في شرح المختصر الفرعي» للعلامة خليل بن إسحاق المالكي (29/4)
13- صحيح مسلم الحديث رقم 50
14- صحيح البخاري: الحديث رقم 2076
15- سنن ابن ماجة الحديث رقم: 2411 قال محققوه الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيره: إسناده حسن في المتابعات والشواهد.
16- سورة البقرة٬ 280
17- أخرجه البيهقي من حديث جابر بسند جيد. يراجع، تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي 524/1
18- متفق عليه صحيح البخاري الحديث رقم 853 وصحيح مسلم الحديث 71.
19- فتح الباري للحافظ بن حجر (205/10).
20- رواه الإمام مالك في الموطأ الحديث رقم: 3460
21- شرح الزرقاني على الموطأ (508/4).
22- في صحيح مسلم (الحديث رقم: 2195) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين».
23- رواه الإمام مالك في الموطأ الحديث رقم: 3460.
24- يراجع: شرح الزرقاني على الموطأ (508/4).
25- صحيح مسلم.
26- رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين الحديث رقم: 8158. وقال: على شرط الشيخين. وأقره الذهبي.

* المفتي في المركز الرسمي للإفتاء بأبوظبي
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"