أبو نصر محمد الفارابي هو صاحب الفضل الأول على الفلسفة الإسلامية، فقد وضع أساسها، ورتب مسائلها، ولهذا يعد أول فلاسفة المسلمين بلا منازع، وكان بين علماء المسلمين يشبه أرسطو بين فلاسفة اليونان، ولذلك أطلق عليه لقب «المعلم الثاني»، كما كان أرسطو يلقب المعلم الأول.
اهتم الفارابي بتهذيب ما ترجم قبله من علوم الفلسفة وقام على ترتيبه ترتيباً علمياً ومنهجياً يسهل طريقة البحث لمن بعده، وعلى يده وصلت الفلسفة الأرسطوطاليسية إلى أقصى ما وصلت إليه من ازدهار، وبفضل شروحه وأفكاره وأسلوبه تمكن من تقريب الفلسفة اليونانية إلى الفكر الإسلامي، مما لم يعْرف قبلاً على يد الكندي.
تبنى الفارابي مذهباً فلسفياً يقوم على نزعة روحية واتجاه صوفي، يلتقيان في فلسفته في نواح متعددة، وكان لمذهبه هذا أثر كبير فيمن جاء من بعده من فلاسفة المسلمين.
كما انفرد الفارابي بالكتابة في موضوع إصلاح الحكم في كتابه المهم (آراء أهل المدينة الفاضلة) الذي تأثر فيه بكتاب «جمهورية أفلاطون»، وكانوا يلقبونه بصاحب المدينة الفاضلة، كما كان يلقب أفلاطون بصاحب الجمهورية.
الحكيم
هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي (ولد عام 260ه موافق 874م في فاراب في بلاد ما وراء النهر، وتقع فاراب اليوم في كازاخستان وتوفي عام 339ه موافق 950 م)، ولهذا اشتهر باسمه، نسبة إلى المدينة التي عاش فيها.
قال عنه شمس الدين الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: «الفارابي شيخ الفلسفة الحكيم أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، التركي الفارابي المنطقي، أحد الأذكياء. له تصانيف مشهورة، من ابتغى الهدى منها، ضل وحار، منها تخرج ابن سينا».
عكف الفارابي في مسقط رأسه على دراسة طائفة من مواد العلوم والرياضيات والآداب والفلسفة واللغات وعلى الأخص التركية، وهي لغته الأصلية بجانب معرفته للغات العربية والفارسية واليونانية.
ثم خرج من بلده نحو سنة 310 ه، وهو يومئذ يناهز الخمسين، قاصداً العراق؛ حيث أتم دراساته فيما بدأ فيه في مسقط رأسه، وأضاف إليه مواد أخرى كثيرة، فدرس في حران الفلسفة والمنطق والطب على الطبيب المنطقي المسيحي يوحنا بن حيلان، ودرس في بغداد الفلسفة والمنطق على أبي بشر متى بن يونس، وهو مسيحي كان حينئذ من أشهر مترجمي الكتب اليونانية ومن أشهر الباحثين في المنطق. ودرس في بغداد كذلك العلوم اللسانية العربية على ابن السراج، وأتيحت له فيها أيضاً دراسة الموسيقى وإتمام دراساته في اللغات والطب والعلوم والرياضيات.
وأخبرنا الذهبي أن الفارابي «أحكم العربية بالعراق، ولقي متى بن يونس صاحب المنطق، فأخذ عنه، وسار إلى حران، فلزم بها يوحنا بن جيلان النصراني. وسار إلى مصر، وسكن دمشق. فقيل: إنه دخل على الملك سيف الدولة بن حمدان وهو بزي الترك. وكان فيما يقال: يعرف سبعين لساناً، وكان والده من أمراء الأتراك، فجلس في صدر المجلس، وأخذ يناظر العلماء في فنون، فعلا كلامه، وبان فضله، وأنصتوا له، ثم إذا هو أبرع من يضرب بالعود، فأخرج عوداً من خريطة وشده ولعب به، ففرح كل أهل المجلس، وضحكوا من الطرب، ثم غير الضرب، فنام كل من هناك حتى البواب فيما قيل، فقام وذهب. ويقال: إنه هو أول من اخترع القانون».
وتنقل الفارابي في سبيل طلب العلم بين العراق ومصر وسوريا، وأقام في بلاط سيف الدولة الحمداني، وأتاح له ذلك الحصول على بيئة مناسبة لتلقي مختلف العلوم والانصراف إلى التعلم وتزويد العقل بالفهم والقراءة.
الزاهد
آثر الفارابي حياة الزهد والتقشف فلم يتزوج، ولم يقتن مالاً، ولم يشأ أن يتناول من سيف الدولة إلا أربعة دراهم في اليوم، كما يذكر كثير من الرواة، أنه كان ينفقها فيما احتاج إليه من ضروري العيش، واكتفى بذلك قناعة منه، وكان في استطاعته وهو الأثير عند الملك سيف الدولة بن حمدان أن يكتنز الذهب والفضة ويقتني الضياع، ويروى أنه بلغ به التقشف أنه كان يسهر الليل للمطالعة والتصنيف مستضيئاً بقنديل الحارس، لأنه لم يكن يملك قنديلاً خاصاً، وأنه بقي على ذلك أمداً طويلاً.
جمع الفارابي بين الزهد والعزلة، فكان يؤثر الوحدة ليخلو إلى التأمل والتفكير، وكان طول مدة إقامته بدمشق، كما يقول ابن خلكان في «وفيات الأعيان»، يقضي معظم أوقاته في البساتين وعلى شواطئ الأنهار، فلا يكون إلا عند مشتبك رياض، حيث يؤلف بحوثه ويقصد إليه تلاميذه ومساعدوه. وانتهى به المطاف في دمشق التي بقي فيها ودفن حين توفي عن عمر يناهز 80 عاماً.
وألّف الفارابي معظم كتبه في بغداد، ثم انتقل إلى الشام، فمصر، وعاد إلى دمشق ثانية ووضع العديد من الكتب والرسائل خلال حياته وأسفاره، ولم يصل إلينا من مؤلفات الفارابي الغزيرة العدد إلا 04 مؤلفاً، منها اثنان وثلاثون باللغة العربية، وستة وصلت إلينا مترجمة إلى العبرية، ومؤلفان إلى اللاتينية، ولعل من أشهر كتبه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، «الموسيقى الكبير»، و«إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها».
ذكر مؤرخو العلوم أن له أكثر من مئتي مؤلف، فقد ألّف في المنطق خمساً وعشرين رسالة، وكتب أحد عشر شرحاً على منطق أرسطو، وسبعة شروح أخرى على سائر مؤلفات أرسطو ووضع أربعة مداخل لفلسفة أرسطو، وخمسة مداخل للفلسفة عامة، وعشر رسائل دفاعاً عن أرسطو وأفلاطون وبطليموس وإقليدس، و15 كتاباً فيما وراء الطبيعة، و7 كتب في الموسيقى وفن الشعر، وستة كتب في الأخلاق والسياسة، وثلاثة كتب في علم النفس. كما وضع تصنيفاً للعلوم في كتابه «إحصاء العلوم وترتيبها والتعريف بأغراضها». وبذلك فهو أول من وضع نواة أو منهجاً لدائرة معارف إنسانية وعلومها في عصره، ومعظم كتب الفارابي ورسائله وشروحه مفقودة، وبعضها لا يوجد إلا في ترجمات عبرية.
كثرة مؤلفات الفارابي، جعلت المستشرق الألماني اشتينشنيدر يخصص لها مجلداً ضخماً وله كتب نقلت إلى اللاتينية؛ حيث نقل بعض كتبه إلى اللاتينية في العصور الوسطى، وطبعت في باريس سنة (1638م)، فكان لها أثر فلسفي عظيم على أوروبا، وطبع نصف مؤلفاته التي وصلت إلينا في أصلها العربي في لندن وحيدر آباد والقاهرة وبيروت وغيرها، ولا يزال باقيها مخطوطاً.
من أشهر كتب الفارابي وأهمها كتابه: (آراء أهل المدينة الفاضلة)، الذي شرح فيه نظام المجتمع الإنساني الأمثل، وحاول أن يفسر نواحي الإسلام المختلفة وجوانب الثقافة العربية الإسلامية المتعددة في ضوء فلسفته الخاصة، فبحث في علم الكلام والعقيدة والفقه والتشريع.
تحدث الفارابي في الكتاب عن المجتمع الفاضل «يوتوبيا»، وهو من نوع المجتمعات التي فكر فيها من قبله طائفة من فلاسفة اليونان كجمهورية أفلاطون، وقد أراد أن ينشئ مدينته وفقاً للمبادئ الرئيسية التي تقوم عليها فلسفته وآراؤه في السعادة والأخلاق والكون وخالقه وما وراء الطبيعة، والمدينة الفاضلة في نظر الفارابي هي ما تتحقق فيها سعادة الأفراد على أكمل وجه ولا يكون ذلك إلا إذا تعاونوا على الأمور التي تحققها، واختص كل منهم بالعمل الذي يحسنه وبالوظيفة المهيأ لها بطبيعته.
اهتم الفارابي بوظيفة الرئاسة في هذه المدينة وحدد لرئيسها صفات فطرية وأخرى مكتسبة يتمثل فيها أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكمال في الجسم والعقل والعلم والخلق والدين.