المدرسة النظامية

بغداد درّة العواصم
01:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

لعل تقدم الحياة العلمية بعد منتصف العصر العباسي، كان من أهم بواعث تقدم الحياة التعليمية وظهور المدارس المتخصصة للتعليم بأبنيتها وأساتذتها وصفوفها وبرامجها . وسرعان ما غدت هذه المدارس مكاناً مهماً لأداء دورها في التعليم، فانتشرت انتشاراً سريعاً، وبنيت في كل مدينة مدرسة، كما بنيت في المدن الكبرى عدة مدارس . وكان أولها المدرسة النظامية التي أنشأها الوزير نظام الملك في العام 459ه/ 1069م، في عهد السلطان السلجوقي ألب ارسلان في مدينة بغداد الذي أراد من خلال المدرسة النظامية، أن يعد فيها شباباً متمتعاً بالعلم والمعرفة، لتولي مناصب الدولة، وخصوصاً في مجالات التدريس والقضاء والافتاء .

وانتشرت هذه المدارس انتشاراً واسعاً في مختلف أصقاع الدولة العباسية وما بعدها، فكانت المدرسة الظاهرية والمدرسة الصالحية في مصر، والمدرسة السعودية في بغداد، والمدرسة الصلاحية في حلب، والمدرسة الغياثية في مكة المكرمة، والمدرسة المستنصرية في بغداد، ومدرسة الزيتونة في تونس، ومدرسة السلطان حسن والجامع الأزهر في مصر، وغير ذلك من المدارس . إذ كان الطلاب يلتحقون بهذه المدارس بعد أن يتخرجوا من الكتاتيب، ويدرسون فيها، إضافة إلى العلوم الدينية، علوم الأدب واللغة والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والهندسة . وكان الطالب يتخصص في أحد الفروع . وقد تخرج في هذه المدارس، عدد كبير من العلماء، أمثال الخوارزمي وجابر بن حيان والرازي، وغيرهم . ولم يخل فرع من فروع العلم والمعرفة من البحث والتوسع والتطوير، فكثرت المؤلفات وتفرعت العلوم وانتشرت في أصقاع الأرض كافة .

المدرسة الأشهر

وقد شيد نظام الملك بعد المدرسة النظامية ببغداد، ثمانية مدارس في أهم المدن الإسلامية في ذلك العصر وهي: البصرة والموصل وكابل وطبرستان ونيسابور وهرات وبلخ . غير أن المدرسة النظامية ببغداد هي التي اشتهرت من بين هذه المدارس كلها، وذلك بسبب اهتمام الخلفاء بها . وينسب للوزير نظام الملك تأسيس المدرسة النعمانية أيضاً، عند مشهد الإمام أبي حنيفة النعمان . وكان افتتاحها قبل النظامية بأربعة أشهر . كما بنى على قبر الإمام أبي حنيفة قبة عالية عظيمة، وعمل لها ملبناً، أي صندوقاً من الخشب، وأنشأ بين يدي القبر رواقاً وصحناً، وجعله مشهداً كبيراً حيث وقعت المدرسة بإزائه . وقد تمت هذه العمارة سنة 459هـ / 1068م . وكانت مدرسة مشهد أبي حنيفة تسمى باسم المدرسة الشرفية نسبة إلى منشئها شرف الملك أبي سعد محمد بن منصور العميد الخوارزمي، مستوفي مملكة السلطان ألب أرسلان السلجوقي (ت 494هـ / 1100م) . وكانت هيئة هذه المدرسة تتكون من المدرس، وهو الذي يدير أوقافها أيضاً، ومن دونه معيدون وإداريون، ومساعدون، وإمام يقيم الصلوات . كما كانت تحتوي على مكتبة خاصة بها يشرف عليها خازن . وبذلك فهي لا تختلف عن المدرسة النظامية من حيث الإدارة والتنظيم .

أما المدرسة النظامية فقد ابتدأ بناؤها في ذي الحجة سنة 457هـ / 1064م وتم افتتاحها في العاشر من ذي القعدة سنة 459هـ / 1066م . وكانت تقع قرب شاطئ دجلة، فوق دار الخلافة العباسية . بينها وبين المدرسة المستنصرية . ويقولون إن موقعها ربما كان في سوق الخفافين، قرب المكان الذي ما زال يعرف بقهوة الشط بين جامع الوفائية شرقاً، ونهر دجلة غرباً، وخان الباجيجي من الشمال، وشارع السموأل من الجنوب .

أكابر العلماء

وقد بنى نظام الملك هذه المدرسة برسم الفقيه الكبير أبي اسحق ابراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476هـ / 1083م، أعظم علماء بغداد آنذاك . وأوقف عليها كتباً وصناعاً وأملاكاً، وسوقاً بنيت على بابها، وجعل إدارتها بيده، وبأيدي أبنائه من بعده . وقرر أن يكون فيها مدرس، وواعظ، ومدير مكتبة، ومقرئ للقرآن الكريم ونحوي يدرس اللغة العربية . وجعل لكل واحدٍ من هؤلاء قسطاً من الوقف . وقرر للطلبة مخصصات يعيشون عليها، فضلاً عن سكناهم داخل المدرسة . وقد نالت المدرسة النظامية صيتاً ذائعاً في كل أنحاء العالم الإسلامي . وتولى التدريس فيها أكابر العلماء، ممن كانت لهم اليد الطولى في تطوير الحركة الفكرية العربية وإنعاشها، بما تركوا من مؤلفات نفيسة، أصبحت من أمهات الكتب المعتمدة في العصور التالية، وبما ألقوا من محاضرات معمقة، وبما خرجوا من طلاب علم نجباء، كان للمدرسة النظامية فضل كبير على تكوينهم الفكري وعلو منزلتهم العلمية في بغداد وسائر العواصم العربية الإسلامية .

وبلغت المدرسة النظامية ببغداد شهرة عظيمة في العالم العربي والإسلامي، في ظل الدولة العباسية، وكان لها فضل كبير على الثقافة الإسلامية من أدب وبلاغة ولغة، فضلاً عن الاهتمام بتدريس علوم الفقه الإسلامي . فغدت بذلك مركزاً مهماً للوعظ والإرشاد والتعلم، وموئلاً لكبار الأدباء والشعراء .

وقد ورد ذكر المدرسة النظامية في رحلة ابن بطوطة، فحدد موقعها وأهميتها عندما تحدث عن أسواق بغداد . فقال: هذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة بالأسواق، عظيمة الترتيب . أعظم أسواقها سوق تعرف بسوق الثلاثاء . كل صناعة فيها على حدة . وفي آخرها المدرسة النظامية العجيبة التي صارت الأمثال تضرب بحسنها .

ويتحدث المؤرخون بإعجاب عن المدرسة النظامية، ويقولون إنها كانت رائعة الجمال، أنفق على بنائها مئتا ألف دينار .

وذكر ابن الجوزي أنه كان قد وقف على فهرست الكتب الموقوفة فيها فوجده يحتوي على ستة آلاف مجلد (صيد الخاطر: 366) . وقد عرفت هذه الخزانة بالعتيقة، بعدما أنشأ الخليفة الناصر لدين اللّه فيها خزانة كتب نفيسة نقلها إليها من مكتبته الخاصة سنة 589هـ / 1193م .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"