بر الوالدين وصلة الأرحام أسمى صور الرحمة

03:33 صباحا
قراءة 5 دقائق

رسم القرآن الكريم بتعاليمه وآدابه صورة إنسانية رائعة للعلاقة بين الآباء والأبناء، كما حث على صلة الأرحام، لتبقى العلاقة بين الأهل والأقارب على أفضل ما يكون من الترابط والمودة والرحمة، وهذا كله ينعكس على المجتمع الكبير بمزيد من الاستقرار.
يقول د. عبد الفتاح العواري، عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر: ارتقى القرآن الكريم بالعلاقة بين الأبناء والآباء فوق كل الاعتبارات المادية، وجعلها أسمى العلاقات الإنسانية، وغلفها بمشاعر الحب والرحمة والوفاء والإحسان، وسجل الحق سبحانه في كتابه الخالد صورة مثالية لتلك العلاقة الحميمة ترسم خريطة طريق للآباء والأبناء معاً ليعيشوا حياة كلها مودة ورحمة وتعاون وتواصل، ويسعد الجميع بالبر المتبادل.

بر متبادل

ويضيف: البر هنا لا يسير كما يعتقد كثير من الناس في اتجاه واحد من جانب الأبناء نحو الآباء.. لكنه بر متبادل يبدأ من الأب تجاه أبنائه، فكل أب ملزم، وفقاً لتعاليم القرآن، أن يبر أبناءه، ويفي بحقوقهم، وفي مقابل ذلك يجني ثمرة بره بأبنائه براً وعطفاً وحناناً ورعاية.. يقول الحق سبحانه في سورة لقمان: «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون».
هذه الآيات الكريمة تحمل توصية بالوالدين، وخاصة الأم التي بذلت من الجهد ما يوجب الإحسان إليها، ولذلك يقول الحق سبحانه في شأنها: «حملته أمه وهناً على وهن» أي حملته أمه في بطنها وهي تزداد في كل يوم ضعفاً على ضعف، بسب زيادة وزنه، وتعرضها لألوان من التعب خلال حمله ووضعه. ومعلوم أن الأم لها فضل خاص وبرها يجلب للابن قدراً كبيراً من الأجر والثواب، وهي التي تحمل ابنها على جناح الرحمة إلى بوابة الجنة إن كان باراً بها.

حقوق الوالدين

وقد جعل الله للوالدين حقوقاً يجب أن يفي بها الأبناء، وأول هذه الحقوق وأهمها حق «الإحسان»، وهو عطاء يفوق البر، وعلى كل ابن أن يعلم أن الله تعالى قرن الإحسان إلى الوالدين بالأمر بتوحيده وعبادته في أكثر من آية، حيث قال الله سبحانه: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا».
وقد جعل الله طاعة الوالدين واجبة، ما لم يأمرا بمعصية، حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومع عدم الطاعة في المعصية، فإن حسن الصحبة يظل واجباً لا يسقط بحال من الأحوال، حيث يقول سبحانه: «وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا».
وبر الوالدين يكون بطاعتهما، وتكون هذه الطاعة بتحقيق رغباتهما، وتجنب ما يسيء إليهما، وذلك لإدخال السرور على قلبي الوالدين.. والطاعة تكون في ما شرعه الله، مما فيه منفعة للوالدين، وليس فيه ضرر ظاهر على الابن، فإذا أمر الأب أو الأم ابنهما بشيء محرم كالسرقة، أو الرشوة، أو ترك الصلاة، أو عدم صوم رمضان مثلاً، فلا تجب طاعتهما، بل تحرم الطاعة، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإلى جانب الطاعة في غير معصية الخالق عز وجل لا بد أن يكون الابن قريباً من والديه يرعاهما على أفضل ما تكون الرعاية، ولذلك قال كثير من العلماء باستحباب سكن الابن مع والديه أو بالقرب منهما لتقديم الرعاية لهما والاطمئنان عليهما باستمرار.
ومن البر بالوالدين الإنفاق عليهما، خاصة إذا كانا في حاجة إلى المال ولا يوجد لديهما ما يكفي ليعيشا حياة كريمة بين الناس..

حقيقة الإحسان

وعن حقيقة الإحسان تقول الداعية والفقيهة د. عبلة الكحلاوي، أستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر: الإحسان إلى الوالدين درجة أعلى من البر، وهو ليس منحة عاطفية من الابن تجاه والديه. بل هو واجب على كل ابن بالأمر الإلهي الصريح، فالله سبحانه وتعالى يقول: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا» ويقول في آية أخرى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» وقال في آية ثالثة: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا»، وإذا ما أمعنا النظر في هذه الأوامر الإلهية لوجدنا أن المطلوب من الأبناء ليس مجرد البر والعطف والحنان والرعاية النفسية والاجتماعية، بل المطلوب أكثر من ذلك وهو (الإحسان)، فالإحسان عطاء شامل يقدمه الإنسان إلى والديه اللذين جعلهما الله سبباً في وجوده حتى لو كان يعتقد أنهما لم يقدما إليه كل ما كان ينتظره منهما.

سمات المجتمع المسلم

ولكي تكتمل منظومة البر بين أفراد الأسرة، جعل القرآن الكريم صلة الرحم فضيلة من أعظم الفضائل، وحث المسلم على أن يتحلى بها ليحظى برضى الخالق والمخلوق، وعلق اكتمال إيمان الإنسان على مدى التزامه بهذه الفضيلة، كما حذر القرآن في عدد من آياته من رذيلة قطع الرحم.
وصلة الرحم التي أولاها القرآن أهمية خاصة من أعظم الأخلاق التي تقوي عروة الدين، وتعزز قيمة النسب، وتؤسس للعلاقات الطيبة بين الناس، كما أنها تساعد على استقرار الأسر والمجتمعات، وعلى شيوع روح التآلف والتعاون بين أفراد المجتمع، وتجعل الكل يعيش في سكينة وطمأنينة، ذلك أن من أهم سمات المجتمع المسلم الترابط والتحاب والإيثار والتعاون.
يقول د. محمد أبو ليلة، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر: صلة الرحم كصلة أعضاء البدن الواحد بعضها بعضاً، فبهذه الصلة تتحقق سلامة البدن وقوته، كما أنه باختلالها أو فقدانها يصير البدن ضعيفاً عاجزاً، ثم لا يلبث أن يكون جثة هامدة، وقد حث كتاب الله الخالد على الإحسان إلى الوالدين والأقربين وذكرهما في سياق الأمر بعبادة الله وحده، يقول سبحانه: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا».. وقال جل جلاله: «وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا».

صلة الرحم.. لمن؟

وقد قسم بعض العلماء الرحم التي ينبغي أن توصل إلى صنفين هما:
- رحم عامة، وهي رحم الدين، وصلتها تكون بالتواد والتناصح والعدل والإحسان والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة.
- ورحم خاصة وهم الأقارب بدءاً من الأبوين والجدّين ومروراً بالأشقاء والشقيقات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وكل من يتفرع عنهم ويتصل بهم، وهم الذين أشار إليهم الحق سبحانه في قوله: «وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض»، والرحم الخاصة تشمل أيضاً كل من يتصل بهم الإنسان بصلات نسب، وصلة هؤلاء تكون بمودتهم والتواصل معهم، وتقديم كل مساعدة لمن يحتاج منهم، وتفقد أحوالهم، والتجاوز عن زلاتهم.. ومن صلة الرحم التي أمرنا بها القرآن الكريم «الإصلاح بين الأقارب»، فالمسلمون جميعاً مأمورون بإصلاح ما فسد من العلاقة مع الأقارب عملاً بقول الله سبحانه: «فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم» فإصلاح ذات البين واجب شرعي، استبقاء للعلاقات وحفاظاً على المودات بين الأهل، وإلا تمزق المجتمع.
وليس المراد بالصلة أن يصل الإنسان والديه وأهله إن وصلوه، بل أن يصلهم وإن قطعوه.
وصلة الرحم كما تقول د. عبلة الكحلاوي تحقق للواصلين منافع دينية ودنيوية عديدة، من أبرزها: البركة في الرزق لحديث رسول الله: «من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه». كما أنها تجلب لصاحبها رضى الله سبحانه وتعالى، لأنه أمر بصلة الرحم وإدخال السرور على الأرحام، وما أعظم عطاء الخالق للطائعين الواصلين لأرحامهم.
وصلة الرحم، إلى جانب ما تقدم، تزيد في عمر الواصل، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن الأعمار».. كما أنها تنشر بين الأهل والأقارب كل صور المودة والرحمة وتوثق عرى التراحم والتعاطف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"