«..فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً» (الأحزاب: 37).«مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»، (الأحزاب: 40).
هو الوحيد الذي ذكره الله -تعالى- باسمه في القرآن الكريم من بين صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، تبناه رسول الله صغيراً، وظل يدعى حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى مات، وكان أول من أسلم من الموالي، وقد آخى -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، وولاه إمارة المدينة المنورة مرتين، حيث استخلفه رسول الله عليها في السنة الثانية الهجرية، واستخلفه عليها مجدداً في السنة الخامسة.
خص النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة وابنه أسامة -رضي الله عنهما- بحب عظيم، حتى قالت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-: لو أن زيداً كان حياً لاستخلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وكانت خيل من بني القين بن جسر أغاروا على أبيات من بني معن من طيء، وكانت أم زيد وهي سعدى بنت ثعلبة من بني معن خرجت به إلى قومها تزورهم فسبقته الخيل المغيرة وباعوه في سوق حباشة بناحية مكة، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهبت خديجة -رضي الله عنها- زيداً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، (وزيد يومئذ ابن ثماني سنين)، وذلك قبل البعثة، فحج ناس من كلب، فرأوا زيداً بمكة، فعرفوه وعرفهم، فأعلموا أباه، ووصفوا موضعه، وعند من هو، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة، وسألا عن محمد بن عبد الله، فقيل لهما: إنه في الكعبة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبعث بعد، فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا، فامنن علينا، وأحسن في فدائه.
مفاجأة مذهلة
ورغم حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزيد، إلا أنه ترك له حرية الاختيار، فقال لهما: ادعوا زيداً، خيراه، فإن اختاركما، فهو لكما، بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء، ففرح حارثة أبو زيد، وقال للنبي: لقد أنصفتنا، وزدتنا، وأحسنت إلينا.
ولما جاء زيد كانت معه مفاجأة لم يتوقعاها، بل لم تدر بخلدهما، فقد سأله النبي: أتعرف هذين؟، قال زيد: نعم، هذا أبي، وهذا عمي، فقال -صلى الله عليه وسلم- لزيد: فأنا من قد علمت، ورأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم، ولنا أن نتوقع حجم الدهشة التي أصابت الأب والعم اللذين جاءا يردان ابنهما ويفديانه بمالهما، ولكنه يأبى أن يلحق بهما، يأبى الحرية التي أراداها له، يأبى أن يختار أحداً على محمد بن عبد الله، ولو كان أباه وعمه وكل أهله، قال أبوه وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟، فقال زيد وقلبه مطمئن لقراره الذي استقر عليه،: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.
كانت تلك بصيرة زيد بن حارثة -رضي الله عنه، وكان ذلك حظه الذي شاء له أن ينال شرف الانتساب إلى نبيه، وشرف الوجود في كنفه، وفرح النبي -صلى الله عليه وسلم- فرحاً شديداً، ودمعت عيناه، وأخذ زيداً وخرج إلى حجر الكعبة، حيث قريش مجتمعة، ونادى: يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني، يرثني وأرثه، فلما رأى أبوه وعمه ذلك طابت نفساهما، ومن يومها صار زيد لا يعرف في مكة كلها إلا بزيد بن محمد.
في رعاية الرسول
ولما جاء الإسلام أسلم زيد، وكان ثاني المسلمين، وظل زيد يدعى ب زيد بن محمد حتى نزل القرآن يبطل التبني، بقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ» (الأحزاب:4)، فسمي زيد بن حارثة، قال القرطبي: قال السهيلي: كان يقال له زيد بن محمد فلما نزع عنه هذا الشرف حين نزل: «ادعوهم لآبائهم»، (الأحزاب:5)، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحداً من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم، وهي أنه سماه في القرآن، ومن بعد صار يدعى: حب رسول الله.
وظل زيد في رعاية رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وزوجه النبي مولاته أم أيمن، فأنجبت له أسامة، وطلقها، ثم زوجه ابنة عمته زينب بنت جحش فبقيت عنده سنين، ولم تلد له، ولم تطب الحياة بينهما، وكانت تدل عليه بما هي عليه من شرف النسب، وبما كان عليه من الولاية، فلما تكرر ذلك عزم زيد على أن يطلقها، وذهب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشكوها، فطالبه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يمسك عليه زوجه، ويصبر عليها، ولكن الله -سبحانه- أمر رسوله بأن يطلق زينب من زيد، ويتزوجها هو، لإبطال عادة التبني التي كانت منتشرة في الجاهلية، وكان الابن بالتبني يعامل معاملة الابن من الصلب.
وكان زيد بن حارثة شجاعاً، ومن أحسن الرماة، اشترك في غزوة بدر، وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الموت في أحد، وحضر الخندق، وصلح الحديبية، وفتح خيبر، وغزوة حنين، وجعله النبي -صلى الله عليه وسلم- أميراً على سبع سرايا، منها: الجموع والطرف والعيص وحسمى، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جيش قط، إلا أمره عليهم.
غزوة مؤتة
وحين تعددت غارات الروم على الحدود الإسلامية، وكانوا قد اتخذوا من الشام نقطة انطلاق لهم، سير الرسول -صلى الله عليه وسلم- جيشاً إلى أرض البلقاء بالشام، سمي بجيش الأمراء، ووقف -صلى الله عليه وسلم- يودعهم، فقال: عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت أرغب أن تستعمل عليّ زيداً، فقال: امض فإنك لا تدري في أي ذلك خير، فانطلقوا في جمادى الأولى من العام الثامن الهجري، حتى نزل الجيش بجوار بلدة تسمى مؤتة التي سميت الغزوة باسمها، وتقابل جيش المسلمين مع جيش الروم الذي كان عدده يزيد على مئتي ألف مقاتل، ودارت الحرب، واندفع زيد في صفوف الأعداء، لا يبالي بعددهم ولا بعدتهم، ضارباً بسيفه يميناً ويساراً، حاملاً الراية بيده الأخرى، فلما رأى الأعداء شجاعته طعنوه من الخلف، فظل زيد حاملاً الراية حتى استشهد، وأخذها من بعده جعفر ثم عبد الله بن رواحة على الترتيب الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صعد المنبر، وأمر بأن ينادى: الصلاة جامعة، فقال: ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ انطلقوا فلقوا العدو فأصيب زيد شهيداً، استغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيداً، استغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فثبتت قدماه حتى قتل شهيداً، استغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء، هو أمر نفسه، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم هو سيف من سيوفك انتصر به، فمن يومئذ سمي خالد بن الوليد -رضي الله عنه- سيف الله.
وذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل زيد يواسي أهله، ولقيته بنت زيد فأجهشت بالبكاء فلما رآها الرسول عليه الصلاة والسلام بكى، فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟، قال صلى الله عليه وسلم: (شوق الحبيب إلى حبيبه).