شهد له النبي بالإحسان والإتقان في قراءة القرآن، وجهر في مواجهة المشركين بسورة الرحمن، وتحمل من أجل ذلك الضرب، وأسس مدرسة الكوفة التي خرج منها الإمام أبو حنيفة النعمان، وأورد الجاحظ خطبه وأقواله في كتاب البيان.
مسح النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه وقال له إنه غلام معلم، فمضى على دربه وهديه يعي ويتأدب ويتعلم.
أذن له النبي عليه الصلاة والسلام أن يطرق في كل الأوقات بابه، فتعلم من أحاديثه وكلماته، وشاهد النبي في حركاته وسكناته، وسمع سور القرآن وآياته، فكان الدرس عظيما، والتأثير كبيرا، حتى كان أقرب الناس إلى النبي في مظهره وجوهره وهيئته وهيبته وسلوكه ونصيحته.
تعلم ابن مسعود من النبي صلى الله عليه وسلم ألا يخشى في الحق لومة لائم، وأن خير الزاد التقوى في الدنيا والآخرة، وأن العلم هو طريق النجاح والفلاح.
وكان يدعو المسلمين أن يطلبوا العلم دائما وأبداً، ونشره في كل مكان ذهب إليه، وكل زمان مر به. والعلم النافع ثالث ثلاثة لا ينقطع فيها عمل ابن آدم في حياته أو بعد مماته.
قصة إسلامه
يروي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قصة إسلامه فيقول: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه فقالا:
يا غلام، هل عندك من لبن تسقينا؟ فقلت: إني مؤتمن، ولست ساقيكما، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل (صغيرة لم تحمل أو تلد)؟ قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها النبي، ومسح الضرع، ودعا ربه فحفل الضرع باللبن ثم أتاه أبو بكر بصخرة منقعرة فاحتلب فيها فشرب أبو بكر ثم شربت، ثم شرب، وقال للضرع: اقلص فقلص (رجع)، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول. فقال: إنك غلام معلم.
يقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: كان أول من جهر بالقرآن الكريم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
اجتمع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها، فمن رجل يسمعهم إياه؟
قال ابن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إذا أرادوه.
قال: دعوني فإن الله سيمنعني (يحميني).
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها (مجالسها) حول الكعبة عند المقام، ثم قرأ بصوت مرتفع بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان (الرحمن: 1 4).
ثم استقبلهم يقرؤها فتأملوه قائلين: ماذا يقول ابن أم عبد؟ إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه، وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما يشاء الله له أن يبلغ، ثم عاد إلى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشيناه عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.
صاحب السر
يقول ابن مسعود: أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقتدوا به في علمه وخلقه وورعه وتقواه، فقال: تمسكوا بعهد ابن أم عبد.
وقال: من أحب أن يسمع القرآن غضا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد، كما قال صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد.
دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يقرأ عليه ما تيسر من القرآن الكريم. وقال: اقرأ علي يا عبدالله، فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ ابن مسعود من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً (النساء: 41 42). فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وفاضت عيناه بالدموع وقال: حسبك يا ابن مسعود.
يقول ابن مسعود: والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحداً تمتطى إليه الإبل (تشد إليه الرحال) أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم.
عرف ابن مسعود بين الصحابة بصاحب السر، حيث أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرق بابه ويستر حجابه على مدار ساعات الليل والنهار. قال الصحابة: إنه كان ليؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا.
حاز ابن مسعود حب النبي وثقته واحترامه حتى إنه قال عليه الصلاة والسلام: لو كنت مؤمّراً أحداً دون شورى المسلمين لأمرت ابن أم عبد.
ويشير الحديث الشريف إلى أهمية مبدأ الشورى وفي الوقت نفسه إلى المكانة الرفيعة لابن مسعود.
صعد ابن مسعود فوق شجرة فضحك بعض الصحابة من ساقيه النحيلتين الضئيلتين. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد وهو القائل عليه الصلاة والسلام: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم، ويقول النبي الكريم: استقرئوا القرآن من أربعة نفر وبدأ بعبدالله بن مسعود.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة.
مضى عبدالله بن مسعود على طريق الهداية والرشاد ليصبح فقيها في الدين وقارئا للقرآن ومفسراً له ومحدثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شهادات الصحابة
قال حذيفة: ما رأيت أحداً أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه ودلّه وسمته من ابن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى.
والسمت هو حسن الهيئة وأيضا الطريق الواضح، وسمت فلان سمت فلان مضى على دربه، والدل هو الإرشاد، والهدي المنهاج القويم.
وقال أبو موسى الأشعري: لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر (العالم) فيكم.. وبعد وفاته قال أبو الدرداء رضي الله عنه ما ترك بعده مثله.
وشهد له أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لقد ملئ فقها، وقد ولاه على بيت المال بالكوفة وقال لأهلها: إني والله الذي لا إله إلا هو قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا.
أجمع أهل الكوفة على حبه وعندما عزله الخليفة عثمان بن عفان من إمارتها اجتمعوا عنده مطالبين باستمراره وبقائه بينهم معلما ووزيرا فقال لهم: إن له عليّ الطاعة، وإنها ستكون أمور وفتن ولا أحب أن أكون أول من يفتح أبوابها.
لم يقل عبدالله بن مسعود كلمة واحدة في حق ثالث الخلفاء، بل قال عندما سمع عن المؤامرات التي تحاك ضده وتستهدف حياته: لئن قتلوه لا يستخلفون بعده مثله.
كان رضي الله عنه من أصحاب الحكمة وأهل البلاغة، فعن إسلام عمر بن الخطاب قال: كان إسلامه فتحاً وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة وقال: إن ربكم ليس عنده ليل أو نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه وقال: خير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشر المكاسب الزنى، وشر المأكل مال اليتيم، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يغفر يغفر الله له وقال: إني لأمقت الرجل أراه فارغاً (عاطلاً) ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة.
اجتمع نفر من الصحابة عند الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقالوا: يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلاً كان أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً ولا أحسن مجالسة ولا أشد ورعاً من عبدالله بن مسعود، فقال الإمام: نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم إني أشهدك، اللهم إني أقول فيه كل ما قالوا وأفضل، لقد قرأ القرآن فأحل حلاله، وحرم حرامه، فقيه في الدين، وعالم بالسنة.
دعاء مستجاب
دعا عبدالله بن مسعود ربه فقال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد في أعلى جنة الخلد.
لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أجاب دعاءه ذهب إليه عمر بن الخطاب ليزف إليه البشرى، فوجد أبا بكر الصديق خارجا من بيته وقد سبقه، إلى ما جاء إليه، وأحاط الصحابي الجليل أنه من أهل الجنة.
عبدالله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي. يكنى بأبي عبدالرحمن، من أعلام الصحابة السابقين إلى الإسلام. ولد بمكة وتوفي بالمدينة في خلافة عثمان بن عفان 653م. أول من جهر بالقرآن الكريم، وخادم الرسول الأمين، وصاحب سره، ورفيقه في غزواته ورحلاته وغدواته وروحاته.
روى 848 حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان قليل الحجم، قصير القامة، نحيل البدن، يحب العطر، يفوح منه إذا أقبل أو مر.
آخى النبي بينه وبين الزبير بن العوام، وبعد الهجرة آخى بينه وبين سعد بن معاذ الأنصاري.
أورد الجاحظ بعض خطبه وأقواله وحكمه في كتاب البيان والتبيين.
كتب بيده مصحفا شريفا يعرف بمصحف ابن مسعود، كان عالما فقيها ومحدثا مفسرا وخطيبا وحكيما، صلى تجاه القبلتين، وشارك النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته وقتل أبا جهل يوم بدر، وقاتل مع أبي بكر في حروب الردة، وشهد فتوح الشام.
نشأ بين أبوين فقيرين، وعمل في طفولته وصباه البكر في رعي الغنم، سادس رجل في الإسلام.
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث عنه أو سمع أحداً يحدث عنه يضطرب لسانه ويصيبه القلق وترتعد فرائصه، أسس مدرسة الكوفة في الفقه، التي خرج منها الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، ولد في مكة وتوفي في المدينة المنورة في خلافة عثمان بن عفان ودفن ليلاً في
البقيع، وصلى عليه عثمان وقيل الزبير بن العوام.
