عوشة السويدي..ركن الشعر

02:13 صباحا
قراءة 9 دقائق
الشارقة: «الخليج»

أن تستحوذ شاعرة إماراتية على كل هذا المديح والثناء من قادة وحكام وشعراء ومبدعين إماراتيين وخليجيين وعرب، وأن تكرم في مناسبات عدة، فهذا هو شأن الإبداع، الذي يفرض شروطه على الآخرين، وهذا هو شأن الشخصية الباذخة بالحب، والصدق، والنقاء، والشعرية الخالصة، التي لم تأتِ من فراغ.
إنها «فتاة العرب» هذا اللقب الذي أطلقه عليها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، «رعاه الله»، واسمها عائشة بنت خليفة بن الشّيخ أحمد بن خليفة السويديّ، ولدت عام 1920 في المويجعي بالعين، أقامت بعد ذلك في دبي، وتعتبر من رواد الشعر النبطي في الإمارات والمنطقة، وسجلت تجربتها الشعرية علامة بارزة، ومهمة في مسيرة الشعر النبطي.
تربت الشاعرة عوشة السويدي في بيت أدب وعلم، حيث المجالس الثقافية التي لا تخلو من الشعر والدروس الدينية، هذا فضلاً عن أن والدها كان بدوره شاعراً مجيداً كما تذكر المصادر، وأيضاً فإن «أباها لأمها» هو أحمد بن خلف العتيبة شاعر وتاجر لؤلؤ معروف. عاصرت مرحلة الغوص على اللؤلؤ في مجتمع الإمارات، ولها قصائد إسلامية، ومنها قصائد خصصت لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
كانت هذه البداية، إضافة إلى تشجيع الأهل، ودوره في صقل موهبة البنت الصغيرة، فكتبت الشعر وهي بعد لم تتجاوز الثانية عشرة، هنا، بدأت أولى مراحل الوعي بالنسبة للشاعرة السويدي، حيث جاء وقت وتم جمع قصائدها في ديوان سمي «ديوان فتاة العرب»، وصدر في طبعته الأولى في عام 1990، ثم ألحق بطبعة ثانية عام 2000، والديوان من جمع وتقديم الشاعر الراحل حمد بن خليفة بو شهاب.
والشاعرة السويدي لها رأي خاص في الشعر تقول فيه: «أنا لا أؤمن بما يسمى بالشعر الحديث، الشعر في نظري هو الموزون المقفى، قوي الكلمات، سليم العبارة، واضح المعنى، فلقد درج المحدثون على عدم استخدام الكلمات الرصينة في اللغة العربية، واستخدموا ألفاظاً غريبة».
أما قصة تسميتها ب «فتاة العرب»، فهو اللقب الذي أطلقه عليها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في عام 1989، ليس ذلك فحسب بل قام سموه بتقليدها وسام إمارة الشعر في عالم الشعر الشعبي، وكانت قبل هذه التسمية توقع قصائدها تحت اسم «فتاة الخليج» ولهذه القصة حكاية مؤثرة، فقد أهداها سموه ديوانه مع إهداء يقول فيه:
أرسلت لك ديوان يا عالي الشان
ديوان فيه من المثايل سددها
يحوى على الأمثال من كل من ازن
من كل در في عقوده نضدها
* * *
فتاة العرب وانتوا لها خير عنوان
ومن غيركم بأقصد معاني نشدها
وفي ذات الإطار فقد وصفها المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في قصيدة له، بأنها ركن من أركان الشعر، وجاء فيها:
يا ركن عود الهوى وفنه
                  شاقني جيلك بالوصافي
طيف رويا لي امشجنه
                  شط بك والحقك لتلافي

بلاغة القول

وثّقت الباحثة الدكتورة رفيعة عبيد غباش، رئيسة متحف المرأة في دبي، سيرة الشاعرة عوشة السويدي، وسلطت الضوء على تجربتها الشعرية، وما فيها من أغراض إنسانية وشعرية لافتة، في بعدها التراثي الأصيل، ليس في الإمارات وحسب ولكن في الخليج العربي، غاص كتاب د. غباش وهو بعنوان «عوشة بنت خليفة السويدي - الأعمال الكاملة والسيرة الذاتية للشاعرة» في ثنايا حياة عوشة السويدي في فصول ومحاور عدة، أبرزت نشأتها، ثم زواجها من ابن عمها وإنجابها لطفلتها الوحيدة «حمدة» مروراً بتنقلها بين العين وأبوظبي واستقرارها في دبي، وتداعيات المكان والبيئة في قصيدتها الشعرية.
في كتابها، ثمة ضوء على ما كانت تمتاز به شخصية عوشة السويدي، من حرية الفكر وبلاغة القول، ناهيك عن أثر المكان في شعريتها، كان هذا المكان هو مدينة دبي بحسب د. غباش التي جاءت عائشة السويدي بذكرها في كثير من قصائدها، من خلال اسمها القديم (الوصل)، بما في ذلك شبكة العلاقات والصداقات التي ربطت الشاعرة بشخصيات دبي منذ ثمانينات القرن الفائت، وهو ما تم توثيقه من خلال السجالات الشعرية بينها وبين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حيث تؤكد د. غباش أن هذه المرحلة كانت الأبرز في شعرية عوشة السويدي من الناحية الإعلامية والحياتية.
في الفصل الثاني من الكتاب استعرضت د. غباش دور هذه المساجلات الشعرية في إثراء المشهد الثقافي والشعري في المنطقة؛ حيث غزارة وثراء الشعر، ورصانة اللغة، وعذوبة المعاني والمفردات.
وجاء الكتاب على ملامح وأغراض شعرية عند عوشة السويدي، مع تقديم أمثلة في المناخات والهموم الوطنية والاجتماعية، وفي أغراض الغزل وغيرها من الموضوعات، كما انفرد أحد فصول الكتاب بالتركيز على القصائد التي كتبتها عوشة السويدي في المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بما في ذلك قصائدها في صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، كما قدمت نماذج من قصائدها في المدح والنقد والهجاء، وهو الذي عكس فرادة وتنوع شعريتها وما فيها من مضامين، ناهيك عن تمكنها من إجادة الأوزان والبحور الشعرية النبطية، المعروفة في البيئة البدوية، كما نوّه الكتاب باعتزالها الشعر، من خلال قصيدتها «ربي يا واسع الغفران» التي نشرت في 2 مارس / آذار 1996، وكانت آخر قصائدها.. ومن أبياتها نقتطف:
انزع الغلّ من قلبي / لا تزغنا عن الإيمان / واهدِنا أحسن الدربي / نظرة يا عظيم الشان / منك يا كاشف الكربي / منّ بالعفو يا منان / وانت يا خالقي حسبي / ملّ قلبي من العصيان / يا رجا الفوز والقربي / ينقضي العمر والأزمان / كالسويعات في لعبي / ليس مولاي لي برهان / غير صفحك عن ذنبي / ويسير من القرآن / حين ألقاك يا حسبي / جنة نورها الرحمن / سقفها العرش والحجبي / طيبه أرضها قيعان / طاب منها شذى التربي
إلى أن تقول:
صلى ربي على العدنان / أكرم الرسل من نبي / صلوات به تزدان / تملأ الشرق والغربي / من به أشرقت لاكوان / وله أصدق الحبي / وبه نكس الأوثان / ورمى الجن بالشهبي / وعلى آله الأعيان / وصحابته النجبي / كلما مال غصن البان / وشجا الهايم الصبي / وتغنت على الأغصان / من بلابله سرْبي.

توثيق

«مغاصات المكان في شعر فتاة العرب الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي» هو كتاب أصدرته مؤسسة سلطان العويس الثقافية في فبراير/شباط الماضي، وهو للباحث والشاعر العراقي مؤيد الشيباني، الذي قال في مقدمته: «إن أبرز ما يصادفك وأنت تقرأ ديوان فتاة العرب، ذلك الكم الهائل من الدلالات والمضامين والرموز الثقافية، بمعطياتها المكانية والتاريخية والاجتماعية، على شكل مفردات وصور شعرية ثابتة في مكانها فنياً، وسابحة في فضاء المعرفة موضوعياً. إن هذا التناقض الإبداعي الجميل هو سر الأخذ بهذه التجربة الشعرية إلى ميادين الدراسة والبحث والمتابعة».
جاء الكتاب في مقدمة وتسعة فصول، مع توثيق لقصائدها المغناة، وهي تزيد على أربعين قصيدة، شدا بها كبار المطربين العرب، وقد غطت فصول الكتاب المضامين الفكرية والجمالية عند عوشة السويدي من حيث الدلالات المكانية، وثنائية البحر والصحراء، والحكمة منابعها ورموزها، والقصيدة - الأغنية، كما درس تعدد البحور والأوزان وتنوعها عند الشاعرة، بما في ذلك قصائد المحاكاة والردود الشعرية وغيرها.
برعت «فتاة العرب» في «الونة» هو وزن مشترك بين الفصحى والعامية، وهو من بحر المجتث، وله خاصية السرعة والهدوء معاً، حيث يجد القارئ نفسه أمام كلمتين أو ثلاث في الشطر الواحد، يلفظها بسرعة عابرة، ولكن بشكل بطيء بسبب انكسارات الإيقاع كما في قول «فتاة العرب»:
برقا روس الشرايف
                 ما بنزل لوطاه
حيد الطويل النايف
              له في النظرة حلاه
وهذا البحر يتميز بخصوصيته من ناحية الوزن، والقالب الشعري، والنغم، سواء عند الجيل القديم أو الجيل الجديد، الذي طوره أو أضاف ما يتناسب مع حداثة الأداء، وهو يبقى لوناً فنياً كتب على منواله عشرات الشعراء الإماراتيين منذ أكثر من مئتي سنة، وهو الذي يؤكد كما يشير الشيباني على تاريخية هذا الوزن في الإمارات، وريادته منذ مئات السنين؛ حيث انتشر في بيئة أبوظبي، وبرعت فيه «فتاة العرب» من خلال عشرات القصائد.
«الردح.. بحر القصائد المغناة» هو من الفنون الإماراتية المعروفة على نطاق واسع بين الشعراء القدامى والمعاصرين، وهو لحن صوتي فيه تطريب، يؤدى دائماً بطريقة الرزفة أو الغناء الشعبي، وينتمي لبحر الرجز، ولفتاة العرب عدد كبير من القصائد على هذا الوزن:
طالبك يا جزل المواهيب
                    يا معطي ما هوب منّاع
فيك الرجا يا عالم الغيب
                 واللي يظن الخير ما ضاع
ومنه أيضاً:
يا رشيد باب الوصل مغلوق
                 وش في حياتي غير لفراق
أصيح وتويع شرى طوق
                    على زمان ما به الحاق
وهذا التنوع في البحور الشعرية، كما يؤكد الشيباني أكسب ديوان الشاعرة تنوعاً واسعاً في مزاج المتلقي؛ حيث يستطيع القارئ أن ينتقل بين ما يشاء من الإيقاعات التي تناسبه في كل لحظة نفسية أو حالة، مثلاً في حالة تثبيت مفهوم «المكتوب في الغيب» فإنها تختار بحر مجزوء الرجز، وهو أحد بحور الردح، ومنه تنساب المعاني بسهولة، فتقول أن المكتوب لك يأتيك ولن يضيع أبداً:
والشي لي مكتوب في الغيب
                       ياتي ورزق الحي ما ضاع
كل على جزل المواهيب
                 لي يستجيب الداعي سراع
ومن البحور التي تطرق إليها الكتاب «الوافر، ويعتبر من أوزان الردح»، وهو يشترك مع الرجز في مجال الأوزان الإماراتية، التي تغنى على طريقة الرزفة أو الأشكال الاحتفالية التي تدخل ضمن نطاق فنون الأداء الغنائية، وهو أيضاً بحر معروف على نطاق واسع بين شعراء الإمارات القدامى والمعاصرين، وقد أبدعت عوشة السويدي في كتابة قصائد على وزن هذا البحر، ومن نماذجه:
ألا يا ويل قلب بات ليله
                سهير ما لجى منهم مثابه
خذوني وانهبوا قلبي دغيله
               حرام وغلّقوا للوصل بابه
وأيضاً:
حبيبي يعل يفداه الفواد
                     من الغالي وما تملك يديّه
وعمري له وروحي دون مالي
                       وكل اللّي يظن بهم عليّه
بعض قصائد فتاة العرب، أصبحت ضمناً في سياق تراث الإمارات، وكثير من أبناء منطقة الخليج يرددون شعرها، وبخاصة قصيدتها بعنوان «أيقودني الهوى»، والتي غنَّاها الفنان ميحد حمد، وفيها الكثير من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية النبيلة، والتوسل بصورة شعرية تسبح في نسيج من البلاغة والبيان، وأطياف من الخيال العذب، والرومانسية التي جعلت من القصيدة كياناً نامياً ونابضاً بالحياة:
سقى الله دارنا عقب لمحولي
                   حقوق الغيث من سحب سرايا
أحياب ساقه الوسمي هملولي
                       يعم اليود به كل النحايا
عسى عشرين يوم بالكمولي
                     وعشر أيام تتلاها وفايا
مطرها من مخايلها هطولي
                    تشبع أورقها مثل السرايا
وأنا العبرات في عيني تجولي
                    الي طرت على بالي طرايا
وصلى الله على طه الرسولي
                        محمد شافعي خير البرايا
كتبت فتاة العرب قصائد في (الاجتماعيات)، من خلال ما يمكن تسميته ب (التجربة المعيشة)، بعنوان «الشموت يموت»، وهي قصيدة على بساطة فكرتها، إلا أنها تعبر عن روح العصر، من خلال رؤيا ذاتية، لها آفاقها الوجدانية، وموقفها الفردي من الحياة والناس، وظاهرة الحسد والشماتة، والخروج عن قيم الأصالة، والمحبة، وما يرتبط بعلاقة مع الذاكرة الجمعية المتمثلة بالتراث.

نماذج من أشعارها..
تقول في الغزل:

باب نسناس الهوى الدايس
              ريحته من نفحة اعطوره
بين عاذد موز وغرايس
               بالندى تتفتح ازهوره
جس نبضك للجسم رايس
                  خلني للحب دختوره
كم طول الليل باقيس
               من صنوف الحب وخطوره
شط بي واضناني الهايس
              منك وادعى النفس مضروره
بين جفني والكرى حايس
                      يوم نوم الدلة في شوره
وفي الهم الاجتماعي من قصيدة «الشموت يموت»، تقول:
يا خشيف الريم لمفلَي
                انت لي للصب اراحاته
شوفني م الحال منسلي
                       كالقلم تبريه امبراته
شلت حمل متعب الشلي
                   وامرحت بالحيل اقواته
ان يحديه ناظري اهلي
                 واسفحت بالدمع عبراته
وان شجيته خفت المجلي
                  تنطوي بالخبث انياته

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"