اتفاق جنيف والسلام الليبي

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود الريماوي

مع الثناء المستحق على جهود الأمم المتحدة التي لعبت أدوارا نشطة في مساعي إحلال السلام والوئام ومكافحة الإرهاب في ليبيا، وكذلك أطرافا اخرى مثل الاتحاد الأوروبي، الا ان التوصل لوقف اطلاق نار دائم وفوري في ليبيا، ما كان ليتم لولا ارادة الليبيين وثباتهم وتمسكهم بخيار حقن الدماء، والحلول السياسية والعودة الى الشعب كي يختار مؤسساته وممثليه على جميع المستويات. وقد كان من الواضح ان استمرار النزاع الليبي كان سيشكل، لا سمح الله، استنزافاً لهذا البلد، وتبديداً لثرواته البشرية والطبيعية، وتقويضاً لمرافقه وبنيته التحتية، وتمزيقاً للنسيج الوطني والاجتماعي، وحرمان الليبيين من فرص الحياة الكريمة الآمنة والمزدهرة، وهو ما حرموا منه طيلة أكثر من أربعة عقود من النظام السابق.

 ويشهد على تمسك الليبيين بخيار السلم، الاندفاع إلى اجراء مباحثات مكثفة فيما بينهم في غير عاصمة عربية وأوروبية، خلال العام الجاري، مع التصميم على إنجاح هذه المباحثات والإفادة من التجارب والاتفاقيات السابقة وتدارك ثغراتها ومكامن ضعفها. وقد لوحظ أنه مع رعاية الأمم المتحدة لمباحثات جنيف، إلا أن دور المنظمة ظل دوراً إجرائياً وتسهيلياً، إذ إن ممثلي الشعب الليبي الذين يتوزعون على الوفدين المشاركين في المباحثات، هم من بذلوا الجهد في الحوار وفي تكريس النوايا الحسنة، وإشاعة أجواء ايجابية مكّنت من التوصل لوقف دائم وفوري وشامل لإطلاق النار منذ فجر الجمعة 23 أكتوبر الجاري. ولم يرشح أن مسار المداولات قد احتاج إلى تدخل خارجي أو دعم أجنبي، إذ سارت المداولات سيراً حسناً وسلساً ومنتظماً، نحو الهدف المرسوم وهو نزع فتيل النزاع، وإبطال خيار المواجهة، وفتح صفحة جديدة في تاريخ بلد عمر المختار، تكون فيها الغلبة للشعب الليبي، ولخيار السلام والوئام والبناء وطي صفحة الحرب والاقتتال..

 ورغم أن الوقت ما زال مبكراً لرؤية اتفاق شامل وتفصيلي يحدد مسار الحلول وجوانبها وجداولها الزمنية وضمانات الالتزام بها من جميع الفرقاء، إلا أن أهمية اتفاق جنيف الذي تم فيه البناء على ما سبقه، تكمن في تزكية خيار السلام بصورة قطعية، وتظهر إرادة الليبيين في إزالة الحواجز فيما بينهم، ووقف التقسيمات الجغرافية والإدارية والعسكرية، والكفّ عن تعطيل استثمار الموارد الوطنية، والشروع في إعادة إحياء الدولة الليبية وذلك بعد نحو نصف قرن من التخبط والعشوائية وتبديد الموارد. وقد كان لافتاً أن الإنجاز الجديد بوقفٍ دائم لإطلاق النار قد تزامن مع الذكرى التاسعة لسقوط النظام «الجماهيري» الفردي، وبما ينطوي عليه ذلك من مغزى لاستنهاض الإرادات، وشحذ العزائم لبناء الدولة ومؤسساتها ومرافقها العصرية، وتدارك ما فات من فرص التنمية والبناء.

 ومع أن المرء لا يستهين بالتحديات الماثلة لرؤية اتفاق جنيف وقد وجد له تنفيذاً على الأرض وفي الأجواء، وخاصة مع وجود إرادات أجنبية في قلب المشهد العسكري، إلا أن اتفاقاً ليبياً رعته الأمم المتحدة تحت أنظار ومسامع العالم، لن يكون من الميسور تجاوزه أو الالتفاف عليه، أو التشكيك فيه، وهو ما ينبغي أن يحمل جميع الأطراف على الالتزام به والعمل بمقتضاه والاهتداء بروحه.. ونعني بذلك مضمون الاتفاق ومقاصده المباشرة والبعيدة في تكريس السلم ووضع حد للاحتراب، وفتح الباب أمام التنافس السلمي بين الفرقاء السياسيين المحليين لنيل ثقة الليبيين والانتقال إلى عهد جديد، تسود فيه وحدة المؤسسات التمثيلية والدستورية، وتتوقف فيه مظاهر الازدواجية والثنائية، ومعه تقاسم الأدوار والمناطق والنفوذ.

 يقيناً أن الشعب الليبي سوف يكون أفضل شاهد على هذا الاتفاق الوطني، وعلى متابعة تنفيذه، ومواكبة مرحلة الاحتكام إلى السلم، وتنظيم بناء المؤسسة العسكرية الواحدة، وصولا إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية التي سوف تتيح اختيار من يحوز على الثقة، وخلال ذلك فسوف تتم مراقبة أداء جميع الأطراف لمعاينة مدى التزامها بالاتفاق قلباً وقالباً، نصاً وروحاً، إذ لا شك وكما في كل نزاع أهلي ذي أبعاد إقليمية، فإن هناك من قد تتضرر مصالحهم، وترتبك حساباتهم وتضطرب مخططاتهم من أثرياء الحرب والمستثمرين فيها، وذلك مع الاعتصام بحبل السلم ومع سكوت المدافع، وسيادة لغة الحوار والتواصل بين سائر المكونات الاجتماعية والسياسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"