الأرمن والأذريون واستحقاق السلام

23:09 مساء
قراءة 3 دقائق

محمود الريماوي

في عام 1991 حينما أعلنت جمهورية أرمينيا وجمهورية أذربيجان استقلالهما عن الاتحاد السوفييتي المنهار، فإن البلدين الجارين لم يشرعا في محادثات لتنظيم العلاقات وترسيم الحدود بينهما. وخلافاً لذلك شرع أبناء إقليم ناجورنو كاراباخ الأرمن في إعلان الانفصال عن أذربيجان، وتلقوا دعماً من جمهورية أرمينيا لم يبلغ حد الاعتراف بإقليم أو كيان مستقل، ومع هذا الدعم نشبت حرب بين البلدين أزهقت أرواح نحو 30 ألفاً من الجانبين، ونحو مليون نازح أذري، والاستيلاء على زهاء 20% من أراضي أذربيجان.

إقليم ناجورنو كاراباخ هو أرميني، وكان جوزيف ستالين قد ألحقه بأراضي أذربيجان عام 1930، غير أن الأرمن استولوا على أراضٍ شاسعة في أذربيجان. وبدلاً من فتح الملف كله بين البلدين في مفاوضات ثنائية مباشرة، فقد تم اللجوء مجدداً إلى خيار الحرب بينهما، وهو خيار مدمر؛ لأنه أساساً يجتذب تدخلات خارجية، وها هي روسيا بعد تركيا، تستعد للتدخل إلى جانب أرمينيا في الحرب، لتواجه بذلك أذربيجان المدعومة من تركيا، والتي تتمتع بتسليح إسرائيلي عالي المستوى، أنفقت عليه باكو بضعة مليارات، وهي البلد المنتج للنفط والغاز الذي بدأ يشهد استقراراً في الآونة الأخيرة ويتحول إلى قبلة للسياحة.

منذ أسابيع دعت أرمينيا إلى مفاوضات مباشرة تتضمن الاستعداد لتقديم تنازلات مؤلمة متبادلة، غير أن أذربيجان رفضت العرض ولم تستغل الفرصة مستفيدة من التقدم الذي حققته قواتها، داعية إلى انسحاب أرميني غير مشروط من الأراضي المحتلة. 

وقد دعمتها تركيا في هذا الموقف المتصلب بالسياسة والدبلوماسية والسلاح، فيما تربط (يريفان عاصمة أرمينيا) علاقات وثيقة بروسيا، حتى إن لروسيا قاعدة عسكرية على الأراضي الأرمينية، وقبل يومين (السبت) كانت الأنباء تتحدث عن اتصالات أرمينية روسية عالية المستوى «لضمان أمن أرمينيا» وهي عبارة يُفهم منها التباحث حول أشكال الدعم العسكري الروسي لأرمينيا، لإعادة التحكم في ميزان القوى الذي اختل منذ أسابيع لصالح باكو.

وقد سعت الولايات المتحدة وإيران، إضافة إلى روسيا وفرنسا، لإبرام وقف إطلاق النار، وهو ما حدث ثلاث مرات، مع تبادل الاتهامات بين الجانبين بانتهاكه، كما تم تراشق بالاتهامات حول استهداف مدن آهلة والتسبب في مقتل مدنيين على نطاق واسع. 

ومن المؤسف أن أفق السلام مازال مسدوداً بين البلدين، ولن يكون من شأن العناد والاحتكام إلى الخيار العسكري سوى إدامة الحرب وتوسيعها، وزيادة الخسائر، وتعميق الكراهية والشكوك المتبادلة، وهو أسوأ ما يمكن توريثه للأجيال الجديدة في البلدين الجارين، مما يجعل مستقبل العلاقة بين الجانبين داكناً ومحفوفاً بالمخاطر.

لقد نجحت بعض المباحثات الثنائية كتلك التي جرت مؤخراً في جنيف بين وزيري خارجية البلدين لتبادل الأسرى، وتجنيب المدنيين والمناطق الأهلة بالسكان، ويلات المواجهة الحربية. ويقتضي الواجب البناء على هذه الإنجازات أو التفاهمات. فالطرفان يدركان ما تحمله الحرب من مرارات، وذلك بالنظر إلى تجربة المواجهة الطويلة في تسعينات القرن الماضي، كما أن البلدين ينزعان لتطوير قدراتهما الذاتية على جميع الأصعدة، فأرمينيا تسعى لتطوير علاقات وثيقة مع روسيا والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، سواء بسواء، وأذربيجان تنوع في علاقاتها مع أطراف إقليمية ودولية، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية.

غير أنه ليس من شأن الحرب سوى وقف الخطط التنموية، وإثقال كاهل الميزانية، وتعريض البنى التحتية للمخاطر، هذا علاوة على الخسائر في الأرواح. أما الأبعد أثراً من ذلك، فهو أن المواجهة العسكرية المفتوحة والمديدة، تفتح أبواباً للتدخلات الخارجية وتُضعف عملياً وشيئاً فشيئاً استقلال الدولتين، وذلك لدى الاعتماد على داعم خارجي لا يقدم الدعم لأسباب خيرية؛ بل من أجل إدامة النفوذ، والمشاركة من موقع قوة، في صنع القرار الداخلي، وعند ذلك فإن أحداً لن ينتصر في الحرب سوى قوى خارجية تطمح لأن يكون لها وجود دائم متعدد الأوجه في البلدين.

سوف يبقى البلدان (أرمينيا وأذربيجان) جارين إلى الأبد حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولن تستقيم الجيرة ولا الحياة برمتها مع الاحتكام لمنطق المغالبة والتقليل من شأن الجار. وربما كان الطريق إلى السلام طويلاً، لكن المنطق يقتضي تقصير هذا الطريق، فالسلام ممكن وواجب وهو حق للأجيال الجديدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"