عادي

رفض القوانين الوضعية.. تطرف يغذيه قصور فكري

23:11 مساء
قراءة 6 دقائق
5


من مظاهر التطرف عند بعض الناس،‮ ‬الحساسية الشديدة ضد القوانين المعاصرة التي‮ ‬قد تصل إلى رفض كل القوانين الوضعية بحجة أنها ليست مستمدة من الشريعة الإسلامية،‮ ‬أو أنها واحدة من آثار المستعمر الأجنبي‮ ‬عندما احتل بعض الدول المسلمة وزحزح القوانين الإسلامية ورحل الاستعمار وبقيت آثاره‮.‬
وقد‮ ‬يتجاوز التطرف هذا الحد لدرجة معاداة هذه القوانين،‮ وهذا الانحراف في‮ ‬الفهم والسلوك،‮ ‬ليس فقط واحداً من أبواب الشقاق داخل بعض الدول،‮ ‬ولكنه أيضاً سوء فهم في‮ ‬أحيان كثيرة لمعنى الشريعة الإسلامية وحدودها عند الفرد والمجتمع المسلم‮.‬

الدكتور محمد نجيب عوضين،‮ ‬أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة يقرر مبدئياً،‮ ‬أن بعض جوانب الشريعة الإسلامية خاصة المتعلقة بالحدود العقابية‮ ‬غير مطبقة في‮ ‬كثير من دول العالم العربي‮ ‬والإسلامي.
أيضا فإن عدم تطبيق الحدود تم في‮ ‬أوقات متدرجة على مدى عشرات السنين الماضية بسبب تدخلات الدول الاستعمارية عقب ما عرف باسم الامتيازات الأجنبية التي‮ ‬مارستها بريطانيا وفرنسا في‮ ‬مصر والشام والهند والمغرب العربي‮.‬
ولكن هذا لا‮ ‬يعني‮ ‬أبدا مغالاة البعض بالقول إن الشريعة الإسلامية‮ ‬غير مطبقة أو رفض كل ما اصطلح على تسميته بالقوانين الوضعية‮.‬
المقصود بالشريعة
ويضيف: قبل أن نناقش أقوال التطرف في‮ ‬هذه المسألة،‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نحدد المقصود بالشريعة الإسلامية حتى لا‮ ‬يختلط الأمر على العامة وبعض الخاصة‮.‬
فالشريعة بالمعنى العام قد تعني‮ ‬الدين كله في‮ ‬جوانبه العقدية والتعبدية والأخلاقية،‮ ‬وهذا المعنى واضح في‮ ‬الآيات القرآنية،‮ ‬عندما‮ ‬يتحدث الخالق عن دين كل نبي‮: «‬شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي‮ ‬أوحينا إليك كما وصينا إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين‮..»‬،‮ «‬ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها‮».‬
والشريعة بالمعنى الخاص،‮ ‬قد تعني‮ ‬الحدود الخمسة أو القوانين العقابية التي‮ ‬قررها الإسلام من حد القصاص وحد السرقة وحد الزنى وحد قذف الأعراض وتعاطي‮ ‬الخمور وإذهاب العقل‮.‬ 
ولا‮ ‬يستطيع عاقل أن‮ ‬يدعي‮ ‬أن الشريعة بالمعنى العام‮ ‬غير مطبقة،‮ ‬ولكنه قد‮ ‬يناقش في‮ ‬الجوانب العقابية‮.‬
لقد لاحظ العلماء بالدراسة الدقيقة أن كثيراً من القوانين الوضعية لها أساس من مقاصد الشريعة الإسلامية ولا تتعارض معها،‮ ‬ذلك أن تفاصيل كثيرة في‮ ‬القوانين المدنية والدولية والبحرية والجنائية تدخل في‮ ‬سياق‮ «‬المباحات‮» ‬المتروكة لمصلحة الناس طبقاً للقواعد العامة،‮ ‬وكثير من هذه القوانين تؤخذ في‮ ‬سياق قواعد التشريع مثل القياس والأعراف والمصالح المرسلة،‮ ‬كما تؤخذ في‮ ‬سياق مبدأ‮ «‬التعزير‮»‬،‮ ‬وهو‮ ‬المساحة التي‮ ‬تركتها الشريعة لولي‮ ‬الأمر؛ حيث ‬يسن عقوبة مناسبة في‮ ‬وقائع مناسبة بجوار العقوبة المنصوص عليها شرعاً،‮ ‬وهي‮ ‬مساحة تجعل كثيراً من الأحكام الوضعية في‮ ‬سياق التعزير والاجتهاد العلمي‮.‬
أيضا فإن بعض العقوبات،‮ ‬خاصة عندما‮ ‬يتعذر تطبيق الحد العقابي،‮ ‬هي‮ ‬عقوبات لها أصل شرعي‮ ‬مثل الحبس الذي‮ ‬يشيع في‮ ‬معظم العقوبات الوضعية فالحبس عقوبة طبقها قضاة المسلمين في‮ ‬وقائع عديدة‮.‬
ثلاث حقائق مهمة
ومع تأكيده على أن رفض القوانين الوضعية من حيث المبدأ تطرف وترف،‮ ‬يمارسه البعض لضيق أفق أحياناً ولأهداف سياسية في‮ ‬أحيان أخرى‮ ‬يقول الدكتور عوضين‮: ‬الرؤية العقلانية تلزمنا أن نضع بين أيدينا ثلاث حقائق مهمة‮:‬
الأولى‮: ‬معاداة القوانين العقابية الوضعية‮ تظهر وكأن هدف المسلمين هو العقاب الشرعي‮ ‬وليس التربية الأخلاقية والسلوكية‮.‬
ليست معركتنا الحالية هي‮ ‬مثلاً حذف السجن ووضع الجلد مكانه،‮ ‬مع تفهمنا لشرعية الجلد ومقاصده التربوية،‮ ‬ولكن معركتنا الكبرى هي‮ ‬صناعة الإنسان المسلم الذي‮ ‬يخاف الله،‮ ‬ويحمي‮ ‬المجتمع،‮ ‬ويرضي‮ ‬إخوانه،‮ ‬ويحفظ المال والعرض والحرية والنفس والمشاعر والأحاسيس‮.‬
الثانية‮: ‬لا بد أن نراعي‮ ‬الظرف التاريخي‮ ‬الذي‮ ‬تعيشه بعض الدول المسلمة،‮ ‬كما لاحظنا الظرف التاريخي‮ ‬الذي‮ ‬عاشته الأمة منذ ثلاثة قرون‮.‬
لقد تراجعت بعض جوانب الشريعة في‮ ‬حياتنا بفعل الاستعمار العسكري‮ ‬والثقافي‮ ‬الذي‮ ‬حل بمعظم الدول الإسلامية،‮ ‬ولا بد بأن نعترف بأن مظاهر هذا الاستعمار لاتزال موجودة في دولنا وترتبط بهذا أيضاً حقيقة بارزة‮ ‬يجب أن‮ ‬يعرفها الشباب خاصة،‮ ‬وهي‮ ‬أن ضعف المسلمين الاقتصادي‮ ‬والعسكري‮ ‬والثقافي‮ ‬لا‮ ‬يوفر لنا القدرة على أن نبدو في‮ ‬مواجهة مع الآخر‮ و‬ينبغي‮ ‬أن ندرك أن الآخر‮ ‬يتحسس من رفض بعض قوانينه الوضعية،‮ ‬وليس من الحكمة أن نستدعي‮ ‬عداء الآخر ونحن على ما نحن فيه‮..‬
الثالثة‮: ‬كما تأثرنا -نحن المسلمين- بقوانين الآخر،‮ ‬فقد تأثرت بقوانيننا وشريعتنا الإسلامية كل قوانين الأرض،‮ ‬ولا تزال‮.‬
لقد رصد كثير من علماء الغرب والشرق الجذور الإسلامية لعشرات التدابير القانونية في‮ ‬دول العالم،‮ ‬في‮ ‬سياق عظمة هذه القوانين الشرعية وفي‮ ‬سياق التبادل الثقافي‮ ‬والتعايش الإنساني‮ ‬بين ‬البشر‮، وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن القانون العادل من مطالب الإسلام أياً كان مصدره.
موقفان متطرفان
العالم الراحل محمود عاشور رحمه الله كان له رد على الرافضين لجملة القوانين الوضعية‮ ‬يتساءل‮: ‬ما مدى معرفة هؤلاء بالنصوص القانونية؟ ومن أين جاءتهم فكرة أن القوانين الوضعية بالجملة لا تحقق في‮ ‬جانبها الأكبر مصالح الناس؟ وكيف حكموا بأنها تتناقض مع أحكام الشريعة القاطعة؟ وفي ‬تصوري‮ ‬أن المتطرفين ليس لديهم إجابة عن هذه التساؤلات،‮ ‬ولكنها انطباعات عاطفية‮ ‬يرددها البعض لحاجات في‮ ‬نفسه ونفس من‮ ‬يرددها له‮!‬
وأضاف: ‬لسنا ضد استمداد تشريعاتنا من الشريعة وأحكام الإسلام،‮ ‬ولكننا ضد التطرف المتمثل في الأخذ بكل ما عند الغرب،‮ ‬أو التطرف برفض كل ما عند الآخر‮.‬
المسلمون اليوم‮ ‬يحتاجون إلى صوت الاعتدال الذي‮ ‬يوازن فيه المسلمون بين حقائق الشريعة ومصالح الناس في‮ ‬سياق قوله صلى الله عليه وسلم‮: «‬الحكمة ضالة المؤمن‮».‬
سلطان الضمير
وفي‮ ‬ضوء رؤية الاعتدال هذه‮، ‬قرر الشيخ عاشور أمرين مهمين‮: ‬
الأول: ليس صحيحاً أن وقوع بعض المعاصي‮ ‬والفجور قرين دخول بعض القوانين الوضعية في‮ ‬بعض الدول المسلمة،‮ ‬فالمعاصي‮ ‬أخطاء فردية يقع فيها كل إنسان بحكم أنه إنسان والخالق شرع التوبة وسامح في‮ ‬الخطأ وقرر العقوبة،‮ ‬وجل الخطاب الإسلامي‮ ‬يخاطب في‮ ‬الإنسان ضميره الإيماني‮ ‬قبل أن‮ ‬يخوفه بالعقوبات‮.‬
وفي‮ ‬هذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام‮: «‬ألا إن في‮ ‬الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد،‮ ‬وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد،‮ ‬ألا وهي‮ ‬القلب‮»‬
وفي‮ ‬عقوبات الحد‮ ‬يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم سلطان الضمير،‮ ‬في‮ ‬مرحلة ما قبل الخطأ وما بعده،‮ ‬وفي‮ ‬ضرورة ستر العورات،‮ ‬وفي‮ ‬العفو والتسامح،‮ ‬وقد روى عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال‮: «‬تعافوا الحدود فيما بينكم،‮ ‬فما بلغني‮ ‬من حد فقد وجب‮»‬،‮ ‬وهنا‮ ‬يقول أحد العلماء‮: «‬ليعف بعضكم عن بعض‮».‬
الأمر الثاني‮: ‬أن الشريعة لم تغب أبداً عن التطبيق عند المسلمين منذ مجيء الإسلام وحتى اليوم وحتى قيام الساعة‮.‬
والواقع أن القول بغياب الشريعة هو المدخل البارز للتطرف ومعاداة القوانين الوضعية،‮ ‬فتطبيق الحد في‮ ‬الأرض لم‮ ‬يغب أبداً عن أهل الأرض فلا تزال دول إسلامية قائمة على حدود الله،‮ ‬ولا تزال الاجتهادات الفقهية تقرب مصالح الناس إلى حكم الله وتقرب أحكام الله إلى دنيا الناس‮.‬
ولهذا أيضاً لم‮ ‬ينقطع الاجتهاد الشرعي‮ ‬ كما‮ ‬يدعي‮ ‬البعض  عن الناس عبر العلماء والمجامع والمدارس الفقهية حتى عندما رغب المستعمر في‮ ‬إحلال بعض قوانينه محل بعض شريعتنا‮.‬
خصوصية إسلامية
وأكد الشيخ عاشور أن الادعاء بسيادة القوانين الوضعية ليس صحيحاً حتى‮ ‬يغالي‮ ‬البعض في‮ ‬تحفيز الناس ضد هذه القوانين أو ضد الغرب كله،‮ ‬أو ضد بعض الحكام الذين‮ ‬يسمحون  حسب زعم المتطرفين  بوجود مثل هذه القوانين‮.‬
فأحكام الشريعة عندنا سارية في‮ ‬المجتمع والناس ومصادر القوانين،‮ ‬ولم تغب عن الحياة اليومية للناس ولا عن مذهب فقهاء الشريعة والقانون،‮ ‬والعادات والأعراف،‮ ‬بل هي‮ ‬التي‮ ‬حفظت للجماعة الإنسانية وللوحدة الإسلامية وجودها ومقوماتها في‮ ‬الحياة‮.‬
أيضا عندنا -نحن المسلمين- خصوصية ذاتية قد لا توجد عند أهل أي‮ ‬دين أو حضارة أخرى،‮ ‬وهذه الخصوصية أعطت المسلمين قدرة واسعة على استيعاب قوانين الآخر وهضم هذه القوانين،‮ ‬وإعطائها مسحة من عقيدة الأمة وأخلاقها،‮ ‬وتراثها الحضاري‮ ‬والثقافي‮ ‬الأصيل‮.‬
إنني‮ ‬أطمئن كل الغيورين على حضارة وعقيدة وشريعة وطننا الإسلامي،‮ ‬أن خصوصيتنا الإسلامية قائمة،‮ ‬وأن بعض نصوص قانونية من هنا أو هناك لن تشكل تهديداً لنا.‬
المسلمون مدعوون لبناء الذات وصناعة الإنسان وتأسيس الحضارة التي‮ ‬تحفظ الدين والمال والأخلاق والأرض والعرض‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"