من مظاهر التطرف عند بعض الناس، الحساسية الشديدة ضد القوانين المعاصرة التي قد تصل إلى رفض كل القوانين الوضعية بحجة أنها ليست مستمدة من الشريعة الإسلامية، أو أنها واحدة من آثار المستعمر الأجنبي عندما احتل بعض الدول المسلمة وزحزح القوانين الإسلامية ورحل الاستعمار وبقيت آثاره.
وقد يتجاوز التطرف هذا الحد لدرجة معاداة هذه القوانين، وهذا الانحراف في الفهم والسلوك، ليس فقط واحداً من أبواب الشقاق داخل بعض الدول، ولكنه أيضاً سوء فهم في أحيان كثيرة لمعنى الشريعة الإسلامية وحدودها عند الفرد والمجتمع المسلم.
الدكتور محمد نجيب عوضين، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة يقرر مبدئياً، أن بعض جوانب الشريعة الإسلامية خاصة المتعلقة بالحدود العقابية غير مطبقة في كثير من دول العالم العربي والإسلامي.
أيضا فإن عدم تطبيق الحدود تم في أوقات متدرجة على مدى عشرات السنين الماضية بسبب تدخلات الدول الاستعمارية عقب ما عرف باسم الامتيازات الأجنبية التي مارستها بريطانيا وفرنسا في مصر والشام والهند والمغرب العربي.
ولكن هذا لا يعني أبدا مغالاة البعض بالقول إن الشريعة الإسلامية غير مطبقة أو رفض كل ما اصطلح على تسميته بالقوانين الوضعية.
المقصود بالشريعة
ويضيف: قبل أن نناقش أقوال التطرف في هذه المسألة، ينبغي أن نحدد المقصود بالشريعة الإسلامية حتى لا يختلط الأمر على العامة وبعض الخاصة.
فالشريعة بالمعنى العام قد تعني الدين كله في جوانبه العقدية والتعبدية والأخلاقية، وهذا المعنى واضح في الآيات القرآنية، عندما يتحدث الخالق عن دين كل نبي: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك كما وصينا إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين..»، «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها».
والشريعة بالمعنى الخاص، قد تعني الحدود الخمسة أو القوانين العقابية التي قررها الإسلام من حد القصاص وحد السرقة وحد الزنى وحد قذف الأعراض وتعاطي الخمور وإذهاب العقل.
ولا يستطيع عاقل أن يدعي أن الشريعة بالمعنى العام غير مطبقة، ولكنه قد يناقش في الجوانب العقابية.
لقد لاحظ العلماء بالدراسة الدقيقة أن كثيراً من القوانين الوضعية لها أساس من مقاصد الشريعة الإسلامية ولا تتعارض معها، ذلك أن تفاصيل كثيرة في القوانين المدنية والدولية والبحرية والجنائية تدخل في سياق «المباحات» المتروكة لمصلحة الناس طبقاً للقواعد العامة، وكثير من هذه القوانين تؤخذ في سياق قواعد التشريع مثل القياس والأعراف والمصالح المرسلة، كما تؤخذ في سياق مبدأ «التعزير»، وهو المساحة التي تركتها الشريعة لولي الأمر؛ حيث يسن عقوبة مناسبة في وقائع مناسبة بجوار العقوبة المنصوص عليها شرعاً، وهي مساحة تجعل كثيراً من الأحكام الوضعية في سياق التعزير والاجتهاد العلمي.
أيضا فإن بعض العقوبات، خاصة عندما يتعذر تطبيق الحد العقابي، هي عقوبات لها أصل شرعي مثل الحبس الذي يشيع في معظم العقوبات الوضعية فالحبس عقوبة طبقها قضاة المسلمين في وقائع عديدة.
ثلاث حقائق مهمة
ومع تأكيده على أن رفض القوانين الوضعية من حيث المبدأ تطرف وترف، يمارسه البعض لضيق أفق أحياناً ولأهداف سياسية في أحيان أخرى يقول الدكتور عوضين: الرؤية العقلانية تلزمنا أن نضع بين أيدينا ثلاث حقائق مهمة:
الأولى: معاداة القوانين العقابية الوضعية تظهر وكأن هدف المسلمين هو العقاب الشرعي وليس التربية الأخلاقية والسلوكية.
ليست معركتنا الحالية هي مثلاً حذف السجن ووضع الجلد مكانه، مع تفهمنا لشرعية الجلد ومقاصده التربوية، ولكن معركتنا الكبرى هي صناعة الإنسان المسلم الذي يخاف الله، ويحمي المجتمع، ويرضي إخوانه، ويحفظ المال والعرض والحرية والنفس والمشاعر والأحاسيس.
الثانية: لا بد أن نراعي الظرف التاريخي الذي تعيشه بعض الدول المسلمة، كما لاحظنا الظرف التاريخي الذي عاشته الأمة منذ ثلاثة قرون.
لقد تراجعت بعض جوانب الشريعة في حياتنا بفعل الاستعمار العسكري والثقافي الذي حل بمعظم الدول الإسلامية، ولا بد بأن نعترف بأن مظاهر هذا الاستعمار لاتزال موجودة في دولنا وترتبط بهذا أيضاً حقيقة بارزة يجب أن يعرفها الشباب خاصة، وهي أن ضعف المسلمين الاقتصادي والعسكري والثقافي لا يوفر لنا القدرة على أن نبدو في مواجهة مع الآخر وينبغي أن ندرك أن الآخر يتحسس من رفض بعض قوانينه الوضعية، وليس من الحكمة أن نستدعي عداء الآخر ونحن على ما نحن فيه..
الثالثة: كما تأثرنا -نحن المسلمين- بقوانين الآخر، فقد تأثرت بقوانيننا وشريعتنا الإسلامية كل قوانين الأرض، ولا تزال.
لقد رصد كثير من علماء الغرب والشرق الجذور الإسلامية لعشرات التدابير القانونية في دول العالم، في سياق عظمة هذه القوانين الشرعية وفي سياق التبادل الثقافي والتعايش الإنساني بين البشر، وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن القانون العادل من مطالب الإسلام أياً كان مصدره.
موقفان متطرفان
العالم الراحل محمود عاشور رحمه الله كان له رد على الرافضين لجملة القوانين الوضعية يتساءل: ما مدى معرفة هؤلاء بالنصوص القانونية؟ ومن أين جاءتهم فكرة أن القوانين الوضعية بالجملة لا تحقق في جانبها الأكبر مصالح الناس؟ وكيف حكموا بأنها تتناقض مع أحكام الشريعة القاطعة؟ وفي تصوري أن المتطرفين ليس لديهم إجابة عن هذه التساؤلات، ولكنها انطباعات عاطفية يرددها البعض لحاجات في نفسه ونفس من يرددها له!
وأضاف: لسنا ضد استمداد تشريعاتنا من الشريعة وأحكام الإسلام، ولكننا ضد التطرف المتمثل في الأخذ بكل ما عند الغرب، أو التطرف برفض كل ما عند الآخر.
المسلمون اليوم يحتاجون إلى صوت الاعتدال الذي يوازن فيه المسلمون بين حقائق الشريعة ومصالح الناس في سياق قوله صلى الله عليه وسلم: «الحكمة ضالة المؤمن».
سلطان الضمير
وفي ضوء رؤية الاعتدال هذه، قرر الشيخ عاشور أمرين مهمين:
الأول: ليس صحيحاً أن وقوع بعض المعاصي والفجور قرين دخول بعض القوانين الوضعية في بعض الدول المسلمة، فالمعاصي أخطاء فردية يقع فيها كل إنسان بحكم أنه إنسان والخالق شرع التوبة وسامح في الخطأ وقرر العقوبة، وجل الخطاب الإسلامي يخاطب في الإنسان ضميره الإيماني قبل أن يخوفه بالعقوبات.
وفي هذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»
وفي عقوبات الحد يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم سلطان الضمير، في مرحلة ما قبل الخطأ وما بعده، وفي ضرورة ستر العورات، وفي العفو والتسامح، وقد روى عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»، وهنا يقول أحد العلماء: «ليعف بعضكم عن بعض».
الأمر الثاني: أن الشريعة لم تغب أبداً عن التطبيق عند المسلمين منذ مجيء الإسلام وحتى اليوم وحتى قيام الساعة.
والواقع أن القول بغياب الشريعة هو المدخل البارز للتطرف ومعاداة القوانين الوضعية، فتطبيق الحد في الأرض لم يغب أبداً عن أهل الأرض فلا تزال دول إسلامية قائمة على حدود الله، ولا تزال الاجتهادات الفقهية تقرب مصالح الناس إلى حكم الله وتقرب أحكام الله إلى دنيا الناس.
ولهذا أيضاً لم ينقطع الاجتهاد الشرعي كما يدعي البعض عن الناس عبر العلماء والمجامع والمدارس الفقهية حتى عندما رغب المستعمر في إحلال بعض قوانينه محل بعض شريعتنا.
خصوصية إسلامية
وأكد الشيخ عاشور أن الادعاء بسيادة القوانين الوضعية ليس صحيحاً حتى يغالي البعض في تحفيز الناس ضد هذه القوانين أو ضد الغرب كله، أو ضد بعض الحكام الذين يسمحون حسب زعم المتطرفين بوجود مثل هذه القوانين.
فأحكام الشريعة عندنا سارية في المجتمع والناس ومصادر القوانين، ولم تغب عن الحياة اليومية للناس ولا عن مذهب فقهاء الشريعة والقانون، والعادات والأعراف، بل هي التي حفظت للجماعة الإنسانية وللوحدة الإسلامية وجودها ومقوماتها في الحياة.
أيضا عندنا -نحن المسلمين- خصوصية ذاتية قد لا توجد عند أهل أي دين أو حضارة أخرى، وهذه الخصوصية أعطت المسلمين قدرة واسعة على استيعاب قوانين الآخر وهضم هذه القوانين، وإعطائها مسحة من عقيدة الأمة وأخلاقها، وتراثها الحضاري والثقافي الأصيل.
إنني أطمئن كل الغيورين على حضارة وعقيدة وشريعة وطننا الإسلامي، أن خصوصيتنا الإسلامية قائمة، وأن بعض نصوص قانونية من هنا أو هناك لن تشكل تهديداً لنا.
المسلمون مدعوون لبناء الذات وصناعة الإنسان وتأسيس الحضارة التي تحفظ الدين والمال والأخلاق والأرض والعرض.