عادي
شمس الحضارة الإسلامية

الخوارزمي أستاذ الغرب في الرياضيات

01:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
1

‏مع بداية القرن الخامس الميلادي كان العالم يعيش في ظلمات من الجهل والتخلف، فمع وهن الإمبراطورية الرومانية وتفتتها، بدأت العصور الوسطى المظلمة التى اتسمت باضمحلال العلوم وانتشار الخرافة والمتوارثات الشعبية الأسطورية. وفي خضم هذا السواد الحالك لاح في الأفق نور يبدد ظلام الجهل لتبزغ شمس الحضارة الإسلامية، حيث كان المسلمون يعيشون حياة الازدهار والرقي، وشهدت القرون الوسطى تقدماً فريداً في كل العلوم والمجالات، خاصة الفلك والطب والفلسفة ، وغدت بلاد المسلمين مقصد العلماء وطلاب العلم، حيث العدل والحرية اللذان مهدا الطريق أمام العلماء للبحث والمعرفة ووضع أسس المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج وإعمال العقل ليظهر جيل جديد من العلماء الذين وضعوا اللبنات الأولى للتطور العملي الحديث.

في‏ ‏كتابه‏ «‏مقدمة‏ ‏في‏ ‏تاريخ‏ ‏العلوم»،‏ ‏أطلق‏ ‏جورج‏ ‏سارتون‏ على ‏النصف‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏الميلادي‏ عصر‏ ‏الخوارزمي، لكنه يبقى ‏أحد‏ ‏أعظم‏ ‏الرياضيين‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏العصور.

ولد‏ ‏أبو‏ ‏عبدالله‏ ‏محمد‏ ‏بن‏ ‏موسي‏ ‏الخوارزمي، ‏عام‏ 164‏ه‏ 808‏م‏ ‏في‏ ‏خوارزم‏ ‏ بخراسان، ‏وانتقلت أسرته إلى بغداد التي كانت مركز الدراسات العلمية والتجارية، وأتى إليها العديد من التجار والعلماء من مناطق بعيدة مثل الصين والهند، وتوفي‏ ‏في‏ ‏بغداد‏ ‏عام‏ 232‏ه‏ 847‏م‏. ‏أو‏ 235 ‏ه‏ 850‏م‏ في بعض الآراء.

للأسف، لاتتضمن‏ ‏مراجع‏ ‏التراث‏ ‏العلمي‏ ‏وتاريخ‏ ‏العلوم‏ ‏عن‏ ‏حياة‏ ‏الخوارزمي‏ ‏إلا‏ ‏القليل، ‏ولكن‏ ‏الثابت‏ ‏أنه‏ ‏تعلم‏ ‏في‏ ‏شبابه‏ ‏علوم‏ ‏الإغريق‏ ‏والهند‏ ‏وفارس، ‏و‏لمع‏ ‏نجمه ‏في‏ ‏علوم‏ ‏الرياضيات‏ ‏والفلك‏ ‏في‏ ‏عصر‏ ‏المأمون‏، ‏حتي‏ ‏عين‏ ‏رئيساً‏ ‏لبيت‏ ‏الحكمة‏ ‏ببغداد، ‏وهو أحد‏ ‏كبار‏ ‏الفلكيين‏ ‏بمرصدها‏.

يجمع‏ ‏مؤرخو‏ ‏العلم‏ ‏وعلماء‏ ‏الرياضيات‏ ‏في‏ ‏العالم‏ ‏على ‏أن‏ ‏الخوارزمي‏ ‏هو‏ ‏مؤسس‏ «الجبر‏» Algebra ‏كعلم‏ ‏مستقل‏ ‏عن‏ ‏الحساب، ‏وهو‏ ‏الذي‏ ‏أطلق‏ ‏عليه‏ ‏هذا‏ ‏الاسم‏ ‏الذي‏ ‏يعرف‏ ‏به‏ ‏في‏ ‏جميع‏ ‏اللغات‏ ‏تقريباً‏. ‏ومن‏ ‏المعروف‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏أحدث‏ ‏ثورة‏ ‏كبيرة‏ ‏في‏ العلوم ‏كافة‏، ‏وعلى ‏أساسه‏ ‏قامت‏ ‏الثورة‏ ‏التكنولوجية‏ ‏في‏ ‏الحاسبات‏ ‏الإلكترونية‏ ‏في‏ ‏العصر‏ ‏الحديث، ‏وهو‏ ‏مايعرف‏ ‏بالخوارزمية‏ (الرقمية‏).‏ 

ونقل‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏عن‏ ‏الخوارزمي‏ ‏إلى‏ ‏اللاتينية‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏الثاني‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، ‏ثم‏ ‏انتشر‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏في‏ ‏أنحاء‏ ‏العالم.

 وهناك‏ ‏دوافع‏ لابتكار الخوارزمي ‏«‏علم‏ ‏الجبر‏»، ‏وأهمها‏ ‏أن‏ ‏الرياضيات‏ ‏التي‏ ‏ورثها‏ ‏المسلمون‏ ‏عن‏ ‏اليونان‏ ‏عجزت‏ ‏عن‏ ‏تلبية‏ ‏المتطلبات‏ ‏الشرعية‏ ‏في‏ ‏تقسيم‏ ‏التركات‏ ‏والمواريث‏ ‏والتجارة‏ ‏وغيرها‏ ‏من‏ ‏الاحتياجات‏ ‏المعاشية‏.‏ 

و‏نشر‏ ‏الخوارزمي‏ ‏أول‏ ‏جداول‏ ‏عربية‏ ‏في‏ ‏حساب‏ ‏المثلثات، ‏تناول‏ ‏فيها‏ ‏الجيوب‏ ‏و‏ ‏الظلال ‏و‏شارك‏ ‏مع‏ ‏لفيف‏ ‏من‏ ‏العلماء‏ ‏في‏ ‏مشروع‏ ‏قياس‏ ‏محيط‏ ‏الأرض‏ ‏الذي‏ ‏أنجز‏ ‏في‏ ‏عهد‏ ‏الخليفة‏ ‏المأمون، ‏وكان‏ أدق‏ ‏من‏ ‏القياس‏ ‏الذي‏ وضعه ‏العالم‏ ‏اليوناني‏ ‏السكندري‏ ‏إراتو‏ ‏ستينتيز‏.

وصحّح‏ ‏الخوارزمي‏ ‏آراء‏ ‏بطليموس‏ ‏المسطرة‏ ‏في‏ ‏كتابة‏ «المجسطي»، وهي ‏‏كلمة‏ ‏يونانية‏ ‏معناها‏ ‏الترتيب،وكان‏ ‏يعد‏ ‏في‏ ‏أيامه‏ ‏أهم‏ ‏كتاب‏ ‏في‏ ‏الفلك، ‏كما‏ ‏وضع‏ ‏الخوارزمي‏ ‏خرائط‏ ‏جغرافية‏ ‏للأرض‏ ‏أدق‏ ‏من‏ ‏خرائط‏ ‏بطليموس‏.‏ كما ابتكر‏ ‏علم‏ ‏حساب‏ ‏اللوغاريتمات‏، ‏وهو‏ ‏مصطلح‏ ‏محرف‏ ‏لاسم‏ ‏الخوارزمي، ويقوم على تحويل‏ ‏عمليات‏ ‏الضرب‏ ‏إلى ‏جمع،‏ ‏و‏القسمة‏ ‏إلى ‏طرح. ‏

وهذه ‏القواعد‏ ‏الخوارزمية‏ ‏في‏ ‏الحساب‏ ‏لاتزال‏ ‏تستخدم‏.‏ واستنبط‏ ‏الخوارزمي‏ ‏طرقاً‏ ‏هندسية‏ ‏لحل‏ ‏معادلات‏ ‏الدرجة‏ ‏الثانية، ‏وهو‏ ‏أقصي‏ ‏ماوصل‏ ‏إليه‏ ‏الإغريق‏.‏ وابتكر‏ ‏الخوارزمي‏ ‏المحدودة‏ Determinant ‏التي‏ ‏طورها‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏العالم‏ ‏الياباني‏ ‏سيكي‏ ‏كاو (1642- 1708‏م)، ‏وأضاف‏ ‏إليها‏ ‏العالم‏ ‏الياباني‏ ‏فوتفريد‏ ‏ويلهلم‏ ‏ليبنز‏(‏1646-1716م)‏، ‏وعممها‏ ‏العالم‏ ‏الفرنسي‏ ‏أوجسطين‏ ‏لويس‏ ‏كوشي‏ 1857‏م، ‏وعمل على تطبيقها‏ ‏في‏ ‏الحياة‏ ‏العملية‏. ‏كما وضع‏ ‏أسس‏ ‏البحث‏ ‏العلمي‏ ‏التجريبي‏ ‏الحديث، ‏وذلك‏ ‏باستخدام‏ ‏النماذج‏ ‏الرياضية‏.‏ 

وذكر الذين‏ ‏ترجموا‏ ‏للخوارزمي كتبا‏ً ‏كثيرة‏ ‏له. و‏ألّف‏ كتاباً‏ ‏في‏ ‏علم‏ ‏الحساب‏ ‏لم‏ ‏يسبقه‏ ‏أحد‏ ‏في‏ ‏العالم‏ ‏إليه، ‏وأدخل نظام الأرقام العربية إلى العالم الغربي، وهذا النظام متطابق مع المستخدم في الوقت الحالي.

‏وضع‏ ‏الخوارزمي‏ ‏كتاب‏ «الجبر‏ ‏والمقابلة‏»، ‏وهو‏ ‏أعظم‏ ‏كتب‏ه ‏انتشاراً‏ ‏في‏ ‏الغرب، ‏و‏تأثر‏ ‏به ‏الكتاب‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏المتعلمين‏ ‏والعلماء، ‏سواء‏ ‏من‏ ‏المسلمين‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏غيرهم، ‏ويذكر‏ ‏أن‏ ‏العالم‏ ‏ليوناردو‏ ‏البيزي‏ ‏كان‏ ‏أشد‏ ‏الغربيين‏ ‏تأثراً‏ ‏به، ‏منذ‏ ‏أن‏ ‏كان‏ ‏مع‏ ‏أبيه‏ ‏في‏ ‏الجزائر، ‏ولما‏ عاد‏ ‏إلى ‏أوروبا ‏نشره‏ على ‏نطاق‏ ‏واسع‏،‏‏ وظل‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏يدرس‏ ‏في‏ ‏الجامعات‏ ‏الأوروبية‏ ‏حتي‏ ‏القرن‏ ‏السادس‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، ‏وحققه د.‏ ‏مصطفي‏ ‏مشرفة‏ ‏ود.مرسي‏ ‏أحمد‏‏ ‏في‏ ‏القاهرة‏ ‏عام‏ 1937‏م‏.‏ كما ‏ألف‏ ‏الخوارزمي‏ ‏في‏ ‏الفلك‏ ‏كتباً ‏ عن ‏علم‏ ‏النجوم،و‏العمل‏ ‏بالإسطرلاب و‏جدول‏ ‏النجوم‏ ‏وحركاتها، و‏كتاب‏ ‏«الرخامة»، ‏لمعرفة‏ ‏الوقت‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الشمس.

‏ ‏وترجمت‏ ‏هذه‏ الكتب ‏إلى ‏اللاتينية‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏الثاني‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، ‏خصوصا‏ ‏الأجزاء‏ ‏الخاصة‏ ‏بالجيوب‏ ‏والظلال‏ ‏الفلكية، ‏وظلت‏ ‏قروناً‏‏ ‏أساس‏ ‏علم‏ ‏الفلك‏ ‏في‏ ‏أوروبا‏.‏

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"