عادي

البتاني.. عبقري الفلك والرياضيات

22:53 مساء
قراءة 4 دقائق
1

‏مع بداية القرن الخامس الميلادي كان العالم يعيش في ظلمات من الجهل والتخلف، فمع وهن الإمبراطورية الرومانية وتفتتها، بدأت العصور الوسطى المظلمة التى اتسمت باضمحلال العلوم وانتشار الخرافة والمتوارثات الشعبية الأسطورية. وفي خضم هذا السواد الحالك لاح في الأفق نور يبدد ظلام الجهل لتبزغ شمس الحضارة الإسلامية، حيث كان المسلمون يعيشون حياة الازدهار والرقي، وشهدت القرون الوسطى تقدماً فريداً في كل العلوم والمجالات، خاصة الفلك والطب والفلسفة ، وغدت بلاد المسلمين مقصد العلماء وطلاب العلم، حيث العدل والحرية اللذان مهدا الطريق أمام العلماء للبحث والمعرفة ووضع أسس المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج وإعمال العقل ليظهر جيل جديد من العلماء الذين وضعوا اللبنات الأولى للتطور العملي الحديث.

ولد‏ ‏‏‏أبو‏ ‏عبد‏‏الله‏ ‏محمد‏ ‏بن‏ ‏جابر‏ ‏بن‏ ‏سنان‏ ‏البتاني‏ ‏الحراني‏، في‏ ‏عام‏ 850‏ ميلادية‏ ‏في‏ ‏بتان‏، ‏بإقليم‏ ‏حران،‏ ‏على‏ ‏نهر‏ ‏البلخ، ‏أحد‏ ‏روافد‏ ‏نهر‏ ‏الفرات‏ ‏شمالي‏ ‏غرب‏ ‏العراق، وهو حفيد‏ ‏العالم‏ ‏المسلم‏ ثابت‏ ‏بن‏ ‏قرة‏. ‏سمي‏ ‏البتاني‏ ‏نسبة‏ ‏إلى ‏بتان‏ ‏من‏ ‏قرى‏ ‏حران، ‏وسمي‏ ‏الحراني‏ ‏نسبة‏ ‏إلى‏ ‏الأسَر‏ ‏الحرانية‏ ‏التي‏ ‏قضى‏ ‏معظم‏ ‏حياته‏ ‏معها‏‏.‏ ‏وتوفي‏ ‏في‏ ‏عام‏ 929‏م‏، ورافق البتاني مجموعة من سكان بلدته متوجهين إلى بغداد للاحتجاج على غلاء الأسعار في ذلك الوقت، وعندما انتهى عالم الفلك ذو ال79 عاماً، من واجبه، وبعد قبول مطالبهم، وافته المنية أثناء رحلة عودته إلى مدينته.

البتاني‏ ‏عبقري‏ ‏مسلم‏ ‏أجرى‏ ‏بحوثا‏ً ‏مبتكرة‏ ‏في‏ ‏الفلك‏ ‏والجبر‏ ‏والمثلثات‏، ‏ولا تزال‏ ‏أرصاده‏ ‏محل‏ ‏إعجاب‏ ‏العلماء‏ ‏في‏ ‏العالم‏ ‏حتى‏ ‏الآن، ‏بل‏ ‏إنه‏ أهم علماء‏ ‏عصره، ‏ولو‏ ‏أخذنا‏ ‏الظروف‏ ‏التي‏ ‏عاش‏ ‏فيها‏ في ‏الاعتبار‏ ‏لاعتبرناه‏ أهم فلكي‏ ‏في‏ ‏العالم، ‏لما‏ ‏قدمه‏ ‏من‏ ‏خدمات‏ ‏للبشرية‏.

 لا تتوافر تفاصيل عن نشأته التعليمية، لكن يحتمل أنه تتلمذ على يد العالمين الكبيرين علي بن عيسى الأسطرلابي، ويحيى بن أبي منصور، وكانا أكبر الفلكيين في العصر الذي نشأ فيه. والأمر المؤكد أن البتاني استوعب المؤلفات الفلكية المتوافرة في عصره، خصوصاً المجسطي لبطلميوس، الذي‏ ‏كتب‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏تعليقاً‏ ‏عليه،‏ ‏وانتقد‏ ‏بعض‏ ‏آراء‏ ‏بطليموس‏ ‏التي‏ ‏وردت‏ ‏فيه‏.. ‏ولأنه‏ ‏نقد‏ ‏آراء‏ ‏بطليموس‏ ‏وصحّحها، ‏فقد وصفه‏ ‏بعض‏ ‏علماء‏ ‏الغرب‏ ‏بأنه‏ «‏بطليموس‏ ‏العرب‏».‏

وصف‏ ‏البتاني‏ ‏الآلات‏ ‏الفلكية‏ ‏وصفاً‏ ‏دقيقاً، ‏وشرح‏ ‏طريقة‏ ‏استعمالها، ‏وشرح‏ ‏أهمية‏ ‏علم‏ ‏الفلك‏.‏ ‏كما‏ ‏يعترف‏ ‏له‏ ‏معظم‏ ‏علماء‏ ‏الفلك‏ ‏المحدثين‏ ‏بأنه‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏وضع‏ ‏جداول‏ ‏فلكية‏ ‏على‏ ‏مستوى‏ ‏كبير‏ ‏من‏ ‏الأهمية‏ ‏والإتقان‏ ‏والدقة، ‏و‏استخدم‏ ‏فيها‏ ‏حساب‏ ‏المثلثات‏ ‏الذي‏ ‏كان‏ ‏جديداً‏ ‏في‏ ‏ذلك‏ ‏الوقت، ‏وسخّره‏ ‏البتاني‏ ‏في‏ ‏خدمة‏ ‏الفلك، ‏وسبق‏ ‏العلماء‏ ‏في‏ ‏الاهتمام‏ ‏بعلم‏ ‏المثلثات‏ ‏الكروي‏ وخواصه‏.‏ و‏ابتكر‏ ‏الدوال‏ ‏المثلثية‏ ‏المعروفة، ‏وكثيراً‏ ‏من‏ ‏المتطابقات‏ ‏المثلثية‏ ‏القائمة‏ ‏عليها‏.‏ وكذا ابتكر‏ ‏مفاهيم‏ ‏جيب‏ ‏التمام، ‏وطبّق‏ ‏القوانين‏ ‏والعمليات‏ ‏الجبرية‏ ‏على‏ ‏المعادلات‏ ‏المثلثية‏.‏ وخالف‏ ‏اليونانيين‏ ‏في‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏حلولهم‏ ‏الهندسية‏ ‏واستبدلها‏ ‏بحلوله‏ ‏الجبرية‏.‏

كما‏ ‏بدأ‏ ‏أرصاده‏ ‏في‏ ‏بتان‏ بالرقة‏ ‏على‏ ‏الضفة‏ ‏اليسري‏ ‏للفرات‏ ‏بالعراق، ‏ثم‏ ‏في‏ ‏أنطاكية‏ ‏بسوريا‏، ‏و‏حدد‏ ‏بدقة‏ ‏طول‏ ‏السنة‏ ‏المدارية‏ ‏والفصول، ‏وزمن‏ ‏مدار‏ ‏الشمس، ‏وحدد‏ ‏ميل‏ ‏دائرة‏ ‏فلك‏ ‏البروج‏ ‏على‏ ‏دائرة‏ ‏خط‏ ‏الاستواء‏. ‏وكانت‏ ‏له‏ ‏ملاحظات‏ ‏دقيقة‏ ‏علي‏ ‏الكسوف‏ ‏والخسوف، ‏ووضع‏ ‏معادلتي‏ ‏القمر‏.‏ وللبتاني‏ ‏مؤلفات‏ ‏كثيرة، ‏منها‏ «‏الزيج‏ ‏الصابئي»، «‏مختصر‏ ‏لكتب‏ ‏بطليموس‏ ‏الفلكية»، ‏«عن‏ ‏دائرة‏ ‏البروج‏ ‏والقبة‏ ‏الشمسية»، «‏رسالة‏ ‏في‏ ‏تحقيق‏ ‏أقدار‏ ‏الاتصالات»، «تعديل‏ ‏الكواكب»، و«في‏ ‏علم‏ ‏الفلك»‏.‏

ولعل‏ «‏الزيج‏ ‏الصابئي‏» ‏هو‏ ‏أشهر‏ ‏مؤلفات‏ ‏البتاني‏ ‏ووضعه‏ ‏في‏ ‏عام‏ 900‏ ميلادية، ‏وضمّنه‏ ‏أرصاداً‏ ‏قام‏ ‏بها‏ ‏في‏ ‏الرقة‏ ‏وأنطاكية، ‏وكذلك‏ ‏على‏ ‏أساس‏ «زيج‏ ‏الممتحن‏» ‏ليحيى‏ ‏بن‏ ‏أبي‏ ‏منصور‏. ‏ويحتوي‏ «‏الزيج‏ ‏الصابئي‏» على ‏عمليات‏ ‏حسابية‏ ‏وقوانين‏ ‏عددية، ‏وجداول‏ ‏فلكية، فيها‏ ‏ما يخص‏ ‏كل‏ ‏كوكب‏ ‏وطريقة‏ ‏حركته، ‏تعرف‏ ‏منها‏ ‏مواضع‏ ‏الكواكب‏ ‏في‏ ‏أفلاكها، ‏ويمكن‏ ‏استعمالها‏ ‏لمعرفة‏ ‏الشهور‏ ‏والأيام‏ ‏والتواريخ‏ ‏الماضية، ‏ومعرفة‏ «الأوج‏»، ‏وهو‏ ‏أبعد‏ ‏نقطة‏ ‏للكوكب‏ ‏عن‏ ‏الأرض، ‏و‏«الحضيض‏» ‏وهو‏ ‏أقربها‏ ‏من‏ ‏الأرض‏، وعموماً، فإن ‏«الزيج‏ ‏الصابئي‏» ‏كتاب‏ ‏يحتوي على ‏معلومات‏ ‏صحيحة‏ ‏ودقيقة، ‏موزعة‏ ‏على‏ ‏سبعة‏ ‏وخمسين‏ ‏باباً، ‏وتدين‏ ‏أوروبا‏ ‏لهذا‏ ‏الكتاب‏ ‏الذي‏ ‏صحح‏ ‏تصوراتها‏ ‏عن‏ ‏المحيط‏ ‏الهندي‏ ‏حتى‏ ‏عهد‏ ‏فاسكو‏ ‏دي‏ ‏جاما، ‏وترجم‏ الكتاب‏ ‏إلى‏ ‏اللاتينية‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏الثاني‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، ‏واستفاد‏ ‏منه‏ ‏العلماء، ‏وأخذ‏ ‏منه‏ ‏كوبرنيكوس‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏السادس‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، وكان‏ ‏كوبرنيكوس‏ ‏يذكر‏ ‏البتاني‏ ‏كثيراً‏ ‏في‏ ‏مؤلفاته، ‏كما‏ ‏أشاد‏ ‏بذكره‏ ‏جاليليو‏ ‏وكيبلر‏. وترجم كوبرنيكوس‏ «‏الزيج‏ ‏الصابئي‏» ‏واضعا‏ً ‏له‏ ‏عنوان‏ «في‏ ‏علم‏ ‏النجوم‏»، ‏وطبع‏ ‏في‏ ‏نورمبرج‏ ‏في‏ ‏عام‏ 1537‏م، ‏كما‏ ‏ترجم‏ ‏إلي‏ ‏الإسبانية‏ ‏بأمر‏ ‏من‏ ‏ملك‏ ‏قشتالة‏ ‏العالم‏ ‏ألفونسو‏ ‏العاشر‏. ‏وقام‏ ‏نالينو‏ في‏ ‏ميلانو‏ ‏بتحقيق‏ الكتاب‏ ‏ونشره‏ ‏في‏ ‏عام‏ 1907، ‏وقبله‏ ‏قام‏ ‏العالم‏ ‏الفرنسي‏ ‏ديلامبير‏ ‏بنشر‏ ‏كتاب‏ ‏في‏ ‏عام‏ 1891‏م‏ ‏خصص‏ ‏منه‏ ‏جزءاً‏ ‏كبيراً‏ ‏لتحليل‏ «الزيج‏ ‏الصابئي‏».‏ 

‏وأطلق‏ ‏علماء‏ ‏الفلك‏ ‏الغربيون‏ ‏اسم‏ ‏البتاني‏ ‏على ‏أحد‏ ‏سهول‏ ‏القمر، ‏وذكره‏ ‏معجم‏ ‏ماكميلان‏ ‏لعلم‏ ‏الفلك‏ ‏ضمن‏ ‏قائمة‏ ‏مشاهير‏ ‏علم‏ ‏الفلك‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ، ‏واستفاد‏ ‏منه‏ ‏دنتورن‏ ‏كثيرا‏ً ‏في‏ ‏ملاحظاته‏ ‏عن‏ ‏الكسوف، ‏وذلك‏ ‏حتى‏ ‏عام‏ 1749‏م‏.‏ كما ‏أشاد‏ ‏إدموند‏ ‏هالي‏ ‏بأرصاد‏ ‏البتاني‏، ‏واعترف‏ ‏بدقتها‏ ‏أيضاً‏ ‏كاجوري‏ ‏في‏ ‏كتابه‏ «‏في‏ ‏تاريخ‏ ‏الرياضيات‏». ‏وعدّه‏ ‏الفلكي‏ ‏الفرنسي‏ ‏جوزيف‏ ‏لالاند‏ ‏واحداً‏ ‏من‏ ‏أبرز‏ ‏عشرين‏ ‏فلكياً‏ ‏في‏ ‏تاريخ‏ ‏البشرية‏.‏

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"