كوبا أمام مفترق طرق

01:01 صباحا
قراءة 3 دقائق

طوى المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الكوبي (أبريل/نيسان 2021) صفحة طويلة من تاريخ كوبا «الثوري»، امتدّت لأكثر من ستة عقود من الزمان حكم فيها فيديل كاسترو الزعيم التاريخي من عام 1959 ولغاية عام 2008، وأعقبه شقيقه راؤول كاسترو الذي تولّى منصب الأمين العام للحزب من عام 2011 إلى عام 2021، وقرّر الخلود إلى الراحة والتقاعد السياسي، مفسحاً المجال للجيل الجديد لتولّي المناصب العليا، لا سيّما بعد تعديل الدستور (ديسمبر/ كانون الأول 2018) الذي اعترف بالملكية الخاصة، وإدارة مشاريع اقتصادية صغيرة للمواطنين، وسمح للاستثمار الأجنبي.
 اختار المؤتمر ميجيل دياز كانيل أميناً عاماً للحزب (60 عاماً)، وكان قد شغل منصب رئيس الوزراء الذي استُحدث في عام 2018. وهكذا يتم الانتقال بصورة سلمية وسلسة من «جيل الثورة» إلى «جيل الدولة»، فهل ستشهد البلاد تطوّرات جذرية أم أن التغيير سيكون عابراً؟
 ولكي يُطمئن كانيل «الحرس القديم»، غرّد عشية انعقاد المؤتمر قائلاً: «إنه مؤتمر الاستمرارية» مؤكّداً أن الخطوط التوجيهية لن تتغيّر. وتعتبر كوبا أحد البلدان الخمسة الشيوعية المتبقية في العالم (الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، ولاوس)، وقد عانت حصاراً أمريكياً ومحاولات اختراق وإطاحة بسبب خيارها الاشتراكي، كما كانت أحد أسباب التوتر خلال فترة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ونجم عنها ما عُرف أزمة الصواريخ (أكتوبر/تشرين الأول 1962)، وظلّت هافانا مصدر قلق لواشنطن في عموم أمريكا اللاتينية.
 ومع أن صحيفة «غرانما» الناطقة باسم الحزب، عنونت افتتاحيتها «مؤتمر كوبا ينعقد» مع صورة لفيديل كاسترو حاملاً بندقية، إلّا أن المؤتمر ناقش قضايا عقديّة كثيرة باحثاً عن «حلول انتقالية»، خصوصاً أنها تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة ومزمنة، تفاقمت خلال تفشي وباء كورونا، إلى درجة أصبحت الشوارع خالية من السيّاح الذين كانوا يتوافدون إليها، وازداد نقص المواد الغذائية شحّة، والطوابير أمام المتاجر طويلة، والأسعار مرتفعة، ولم ينفع معها زيادة الرواتب، وبدأ نوع من التذمّر شهد احتجاجات لفنانين ومجموعات من المجتمع المدني، استغلّتها المعارضة مستفيدة من العقوبات المتفاقمة التي تعانيها.
 وخلال العقد ونيّف الماضي حاولت كوبا أن تتوجّه بحذر وتدرّج باتجاه الانفتاح على الإنترنت والهاتف النقّال والاستثمار الخارجي محاولة الالتفاف على نظام العقوبات الأمريكي، المطعون به من جانب الأمم المتحدة، ومستفيدة من سياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما للتخفيف من الضغوط التي تتعرّض لها، إلاّ أن مجيء الرئيس دونالد ترامب عطّل من مهمة تطبيع العلاقات،بل مارس أقسى درجات الضغط عليها، ولا سيّما في عام 2019، حيث باشر بحجب أعداد السفن المتوجّهة إليها لغرض السياحة، وقام بإغلاق وكالة «ويسترن يونيون» للتبادل المصرفي وتحويل العملات، حيث كان الكوبيون الذين يعملون بالخارج يقومون بإرسال الأموال إلى أقاربهم.
 حين صدر كتابي الموسوم «كوبا الحلم الغامض» (دار الفارابي، 2011) جئت فيه على 5 حروب عاشتها كوبا وانتصرت فيها، وبقي أمامها «حربان»، أولهما الحرية وثانيهما التكنولوجيا. وما لم تنتصر بهذين الحربين فإن استمرار الوضع على ما هو عليه سيكون صعباً إن لم يكن مستحيلاً. فالعالم متجه إلى الإقرار بالتعددية والتنوّع وتوسيع دائرة الحريات ولا سيّما حريّة التعبير، فلم تعد سياسة «الحزب الواحد» مقبولة أو منطقية، مثلما لا بدّ لها من ولوج عالم التكنولوجيا، إذْ ليس من المعقول بقاء الوضع على ما هو عليه. والتكنولوجيا تحتاج إلى رأسمال وهذا الأخير يحتاج إلى بنية تحتية وهياكل ارتكازية وإمكانات وتسهيلات، خصوصاً أن سياسات الحصار جعلتها جميعها متهالكة ومتآكلة.
بعد انتهاء الحرب الأهلية في روسيا 1923 ألقى لينين محاضرة قال فيها: إننا انتصرنا ولكن مَن يبني روسيا؟ أليس الرأسمال؟ وهذا لن يأتي إلا بشروطه وليس بشروطنا ولذلك ابتدع مشروع «رأسمالية الدولة».
ما ينتظر «جزيرة الحرية» ليس تغييراً فوقياً أو استبدالاً شكلياً، فهذا الشعب الذي اجترح عذابات لا حدود لها يحتاج إلى تغييرات جذرية، وإن كانت تدرجية في إطار التوجّه الاشتراكي، فكوبا جزء من العالم المتحرك وأرخبيلاته المفتوحة على بعضها، لا سيّما في ظل الطور الرابع من الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي، فقد غاب القادة الكارزميون مثل كاسترو وقبله جيفارا واليوم تقاعد راؤول الذي عاش بجلباب أخيه. ويبقى أمام كارنيل السير بالدولة الاشتراكية بالتدرج ولكن بالضبط، نحو العلم والتكنولوجيا في أجواء أكثر حرية وانفتاحاً، والتخلص من البيروقراطية الحزبية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"