«لأجل الوُلفة تهونُ الكُلفة»

00:40 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد حسن خلف *

كثيراً ما كان فصحاء العرب يقولون عبارات مقتضبة، ولكنها لجمالها والمعاني الجمّة التي تحملها تصيرُ مثلاً شائعاً منتشراً بين أبناء القبائل، وتتناقلها الأجيال، وتبقى خالدة، من ذلك قولهم «إلى حتفي مشت قدمي»، وقولهم «الصديق وقت الضيق»، وقولهم «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن».
قبل أيام تداخل صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في برنامج «الخط المباشر» عبر إذاعة وتلفزيون الشارقة، للحديث عن سياسة الإسكان في إمارة الشارقة، وكان من بين ما ذكره سموّه، سياسةُ الإسكان في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، وهي التي يسكنها أبناء القبائل البدوية، ولها خصوصية يسعى سموّه للمحافظة عليها؛ فهم يسكنون في قرى متفرقة، كل قرية أو حي أو «فريج» يضم أبناءه، ولا يجاورهم فيه غريب، وهو ما يزيد من كلف إنشاء المساكن في هذه المناطق وتعميرها، فقد يتطلب كلُ حيّ مجموعة صغيرة من المساكن، وقد يبعد الحي عن الآخر عشرات الكيلومترات، حتى إن سموّه قال في المداخلة نفسها «إن شاء الله لو بيت واحد في كل حي».
هذه المكالمة لصاحب السموّ  حفظه الله  حملت الكثير من المعاني التي يجب الوقوف عليها، بعضها من تخصّص العاملين في القطاعات الاجتماعية والإسكانية، إلا أنني سأقف عند هذه العبارة «لأجل الوُلفة تهونُ الكُلفة»، من زاوية لغوية أدبية، لما تضمنته من سماتٍ تمكنها لتُخلّد مثلاً، للتعبير عن الدلالات والمعاني التي تتوافق مع المعنى الذي أراده صاحب السموّ حاكم الشارقة.
فالعبارة مختصرة، تحمل ظاهرة الإيجاز، وهو أن تأتي ألفاظٌ قليلةٌ لتؤدي معانيَ ودلالاتٍ كثيرة، وهذه أهم سمات الأمثال والحِكم. كما أنّها لا تخلو من الإيقاع والجرس الموسيقي، وهو ما يساعدها على التلقي والحفظ والانتشار، فتُتداول كما الأمثال العربية الخالدة؛ ولعل أوضح مثال على الجرس الموسيقي، الجناس الناقص في كلمتي (الوُلفة والكُلفة).
لكن قد يتبادر للذهن سؤال مهم جداً، نحن نقول في لهجتنا العامية (وُلفة) كما نطقها سموّه في المداخلة، ونقصد بها (الأُلفة)؛ فهل هي صحيحة في لغة العرب؟
هذه المفردة كما كثيرٌ في لهجاتنا المحلية، يعتقد بعضهم أنْ لا أصول لها في العربية الفصحى، وفي كلام العرب قديماً، والصواب خلاف ذلك تماماً؛ فكثير من مفردات اللهجة المحلية ولهجات العرب عامة، أصلها عربي، ونطقَها العربُ قديماً في عصور الاحتجاج اللغوي، بل وكثيرٌ من الظواهر اللغوية التي نستخدمها في لهجاتنا المحلية اليوم، من قلب للحروف وإبدالها أو نحتها، إنما هو مما شاع بين قبائل العرب قديماً، ولا أريد التفصيل في هذا الموضوع، فلعل مناسبة أخرى تقودنا للحديث عن أمثلة واضحة في لهجتنا المحلية وأصلها العربي على لسان قبائل العرب قديماً، وإنما التفصيل سيكون في كلمة «الوُلفة» التي نطق بها صاحب السموّ حاكم الشارقة، وهو الحريص على سلامة اللغة العربية واللهجة المحلية كذلك.
نقول في اللغة: والف موالفة، أي تجانس وتآنس، وهي لغة من تآلف مؤالفة، فإن إبدالَ الهمزة واواً أمرٌ شائع في لغة أهل اليمن قديماً؛ يقول الفيومي في «المصباح المنير»: «ويجوز إبدال الهمزة واواً في لغة اليمن فيقال واسيته»، بدل آسيته. ونقل ابن منظور في «لسان العرب» عن لغة طيء، أنهم يقولون واخيته في آخيته، وفي «المزهر» للسيوطي: «تقول تميم أكدت تأكيداً بينما يقول أهل الحجاز وكدت توكيداً»، ويقول الله  تعالى : {ولَا تَنقُضُواْ ٱلْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (النحل: 91).
إذن، الهمزة والواو تتبادلان مواقعهما في كثير من الكلمات، وكلاهما صحيح، على اختلاف لهجات العرب ولغاتهم؛ قال ابن السكّيت في «إصلاح المنطق»: «والموالفة مما يقال بالواو والهمزة». وقال الأزهري في «تهذيب اللغة»: «كانت على معناه في الأصل إلفاً فصيّر الهمزة واواً» فصارت ولفاً.
والألفة والولفة عند العرب هي المؤانسة، يقول ابن منظور: «والفت فلاناً إذا أنست به»، وفي تاج العروس: «توالف الشيء موالفة، ائتلف بعضه إلى بعض»، ومن معانيها الملازمة، ومنها {لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافهم} (قريش 1)؛ يقول ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: «آلفتُ فلاناً كذا إيلافاً»، كما تقول ألزمته إياه ملازمة، ولابن الملقن: «آلفنيه اللهُ أي عودني به وحببه إليّ». فالتآلف والموالفة تتضمن معاني الانسجام والمؤانسة والمحبة. وهو عين ما أراده صاحب السموّ، حينما شدد على الأُلفة، التي من أجلها تهون كل الكلف المالية، فهو بذلك يحافظ على التجاور وصلة الأرحام والتآلف.
وهكذا في كل يوم نتعلم من صاحب السموّ حاكم الشارقة، الكثير من المعاني في مداخلاته ومحاضراته، ما بين التاريخ واللغة والأدب، والنصائح الأبوية، وهكذا شأن المعلم دائماً؛ حفظه الله وزاده علماً ومعرفة.

* المدير العام لهيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المدير العام لهيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"