«البانتشاسيلا».. ونهضة إندونيسيا

00:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. كمال بالهادي

خلال احتفالية انتظمت بمقر سفارة إندونيسيا في تونس العاصمة، بمناسبة ذكرى إعلان المبادئ الخمسة «البانتشاسيلا» لتوحيد إندونيسيا في غرة يونيو/حزيران من عام 1945، تحدث السفير زهيري مصراوي عن الآليات التي جعلت من هذه الدولة إحدى أغنى دول العالم، بعد أن كان شعبها يرزح تحت الاحتلالين البريطاني والهولندي.
 عندما نقرأ هذه التجربة الحضارية لدولة تسكنها أغلبية مسلمة، نخلص إلى أن الإسلام ليس عائقاً أمام الديمقراطية أو النهضة الحضارية متى تخلّص من تلك القراءات الموغلة في الانغلاق ومن تلك التفسيرات التي تترك جوهره و تأخذ ظاهره فقط. ففيما نرى نحن بعض الجماعات المنشقة عن جماعة «الإخوان» تشرع للقتل وقطع الرؤوس والاختطاف والسبي، نجد أن هذه الدولة تتعايش فيها أديان وعرقيات وطوائف وأعراق وملل ونحل، لا يجمع بينها أحياناً الحد الأدنى المشترك الذي ينبني عليه أي مجتمع. ومع ذلك استطاع الزعيم أحمد سوكارنو أن يعلن المبادئ الخمسة المعروفة ب«البانتشاسيلا» في غرة يونيو/حزيران من عام 1945، والتي تقوم على الإيمان بالوحدانية الإلهية، والإنسانية العادلة المتحضرة، ووحدة الأمة الإندونيسية، والديمقراطية الموجّهة، والعدالة الاجتماعية. ويقول السفير مصراوي، إن هذه المبادئ حسمت وبسرعة مسائل خلافية وجدلاً كان قائماً قبل ذلك حول هوية الدولة بعد استقلالها. 
 ولعل أهم مبدأ تم حسمه هو الإيمان بالله. فهذا المبدأ جعل كل أتباع الديانات والمذاهب والطوائف، تجد نفسها منخرطة فيه ولم تشعر أي جهة إيمانية بأنها مهمّشة أو مقصية. وهذا ما جعل الإندونيسيين ينخرطون كل في عبادته الخاصة في احترام متبادل بين جميع أتباع الديانات. و المهم في هذا، أن النقاشات انتقلت بعد حسم المسألة الإيمانية إلى تنظيم الحياة الدنيوية، وهذه كانت مهمة المبادئ الأربعة الأخرى وهي الوحدة الوطنية المقدسة والديمقراطية الموجّهة أي الديمقراطية المشروطة بالتوافقات بين الحكماء والعدالة الاجتماعية والإنسانية المتحضّرة. وسنفصّل كل مبدأ على حدة، لأنه من المهم جداً أن ندرس هذه التجربة دراسة معمّقة حتى ندرك أسباب نهضة هذه الدولة ذات الأغلبية المسلمة. لقد رسّخ مبدأ التوحيد الإيماني، كما ذكرنا مسألة توحيد الله، وفي ذلك حسمت مسائل كلامية ودينية شديدة التعقيد أسهمت في تشظي مجتمعات إلى طوائف متناحرة وإلى حروب دينية لا تنتهي. وبهذا المبدأ ضمن الإندونيسيون مبدأ آخر وهو الوحدة الوطنية التي تترسّخ ضمن التنوع الثقافي واللغوي والديني. وبهذين المبدأين حفظ الإندونيسيون المجتمع من أي مداخل لما يسمّى «التكسير الاجتماعي» والذي يستغل فيه الأعداء نظريات الأقليات المهمّشة أو المقصية، ويتم العمل على تغذية النزعة العدائية لديها، ضد ما تعتبر عرقية أو دين مسيطر في ذلك البلد. وإذا ما استبطن المواطن هاتين القيمتين، فإنه لا يرضى بغير العدالة الاجتماعية، المبدأ الثالث فهو لتنظيم العلاقات بين أفراد/مواطني المجتمع في هذه الدولة. وهو ما نجح فيه سوكارنو ورفاقه عن تأسيس إندونيسيا الحديثة. والعدالة الاجتماعية تعني المساواة بين الطبقات الاجتماعية وكذلك في علاقة المدينة بالريف؛ حيث منحت الأرياف مبدأ التمييز الإيجابي لضمان عدم تصحرها، ولضمان استدامة مشروعات التنمية الشاملة. ولنقل إنهم مدنوا الريف بدل ترييف المدينة. أما المبدأ الرابع فهو الديمقراطية الموجّهة، وهي النظام السياسي الذي يسمح لجميع المواطنين بالمشاركة الفعالة ضمن الأطر الحزبية والجمعيات، لكن من دون أن تتحول الديمقراطية الإندونيسية إلى ديمقراطية الفوضى التي خرّبت أوطاناً عربية وفككت مجتمعات، لأنها جاءت على ظهور الدبابات والطائرات الغازية.
 ولعل هذه الصورة المكوّنة من المبادئ الأربعة، تبرّر المبدأ الخامس الذي أعلنه سوكارنو، وهو مبدأ «الإنسانية المتحضّرة». فمن سعى إلى ترسيخ مجتمع متحضّر لا يقبل إلا بمجتمع دولي و إنساني متحضّر يتساوى فيه الإنسان مع أخيه الإنسان، ولا غرابة في أننا وجدنا إندونيسيا رائدة في تنظيم مؤتمر باندونغ لتأسيس منظمة دول عدم الانحياز. فهذا المبدأ هو الذي ارتكزت عليه سياسة إندونيسيا الخارجية سواء في محيطها الإقليمي أو الدولي.
إنها تجربة ولا شك تحتاج قراءة عميقة وعلمية، لأنها من تجارب الدول الناجحة، فالتحضّر ليس سمة غربية كما رسخوا في أذهاننا؛ بل إنه يمكننا اقتباس التحضّر من الشرق أيضاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"