عادي
رفوف إماراتية

«من أرض بلقيس».. سرد يستمع إلى ألحان ملكة سبأ

22:53 مساء
قراءة 4 دقائق
6

الشارقة: علاء الدين محمود
الكاتب عبد الله ناصر سلطان العامري، هو من أكثر الأدباء والمؤلفين الإماراتيين الذين كتبوا مشاهدات حية بلغة سردية راقية في سياق أدب الرحلات، وعلى الرغم من أن العامري متخصص في علوم الطيران والعلوم السياسية، وله اهتمامات رياضية، إلا أنه ولج عالم الكتابات الإبداعية وأصدر العديد من المؤلفات مثل: «عسل زنجبار المر»، و«الاتجاه شرقاً»، و«على ضفاف نهر الغانج»، وكل تلك الكتب يأخذ فيها العامري القارئ نحو ضفاف وعوالم جديدة، بسرد بديع محتشد بالمشاهدات والصور يقدمها عبر لوحات درامية تنهض برافعة الوصف القوي للأماكن من مدن ومقاهٍ وأزقة، وكل ما يجعل القارئ يتورط في حب المكان، وكذلك الشخصيات المتنوعة، ما يجعل المتلقي يشعر كأنه يقرأ في رواية تتوفر فيها شروط المتعة.

إضافة إلى ذلك، فإن كل تلك المؤلفات للعامري، توضح للمتلقي أن الكاتب يتمتع بحس الالتقاط للتفاصيل الصغيرة في حياة المجموعات والشعوب التي التقى بها في أسفاره المتعددة، والتي تجعل القارئ يتعرف إلى خصوصيات وثقافات تلك الشعوب، وعاداتها وتقاليدها ولهجاتها ولغاتها وهوياتها التي تشكلت عبر القرون، ولعل الملاحظة الجديرة بالذكر، ذلك الربط بين الماضي والحاضر في حياة تلك المجتمعات التي تعرف إليها المؤلف، حيث تطل المؤلفات على الأساطير القديمة وتسربها إلى العادات الحديثة لتلك الشعوب، عبر رصد التغيرات والتحولات في القيم والتقاليد.

«من أرض بلقيس»، أحدث مؤلفات العامري، والذي صدر حديثا، وفيه يواصل سردياته المستقاة من مشاهد الرحلات والأسفار، متوجهاً هذه المرة صوب اليمن السعيد، حيث التاريخ والحضارة والتراث العظيم، فالكتاب ينقل المتلقي بالفعل نحو عوالم ساحرة، ولعل القارئ سيتوقف طويلاً عند عنوان الكتاب كعتبة نصية مهمة، وكواحد من التقنيات التي يوظفها الكاتب بصورة تغري القارئ في مطالعة الكتاب، حيث يستدعي العامري في العنوان أحد أبرز رموز الأدب والإبداع واليمني، وهو الشاعر عبد الله البردوني، وتحديداً ذلك البيت الذي يقول فيه:

من أرض بلقيس هذا اللحن والوتر

من جوها هذه الأنسام والسحر

البردوني

وقد وجد الكاتب أن ذلك العنوان المستلهم من هذا البيت الشعري للبردوني، يختزل اليمن وحضارته وتاريخه المديد، وقد اهتدى إليه بعد بحث في كلمة تعبّر عن تلك البلاد التي تحتضن التاريخ والحضارة والمكان، بعد أن غمره حب أهلها وتأثر بطيبة إنسانها الضاربة جذورها في القدم والحضارة، وما كان له أن يترك سانحة الحديث عن البردوني تمضي هكذا، خاصة أن شاعر اليمن هو أحد أعمدة بلاد بلقيس، وقاماتها الأدبية التي رسخت في وجدان كل اليمنيين والعرب، حيث يلفت الكتاب إلى أن البردوني هو العاشق الكبير لليمن، لم يقبل الخضوع والخنوع يوماً أمام الطغاة، وكان علامة فارقة ليس في اليمن وحدها، بل كان أحد رموز الشعر الكبار في الوطن العربي كله، والذي اختزل كل أحداث اليمن السياسية والاجتماعية المعاصرة في قصائده ونصوصه التي تميل إلى التجديد والحداثة، والتي صاغها بكثير من السخرية والرثاء والنقد على ما آل إليه حال اليمن من فقر ومعاناة.

الكتاب الذي يقع في 255 صفحة من القطع المتوسط، يضم العديد من المراجع، ويعتمد في سردياته على المشاهدات والصور ووصف للمكان والشخوص، بل ويستدعي كثيراً من المواضع الأحداث والمواقف التاريخية ليسقطها في واقع اليوم، متجولا في الأحياء القديمة، والمواقع الأثرية التي شهدت وقائع تاريخية ضاربة في القدم، ويحضر في الوصف البديع ألواناً من الصور والصفحات التي تتسرب إلى وجدان القارئ بنوع من الدهشة والمتعة معاً، تحضر «حضرموت»، بكل عبقها وألقها التاريخي، و«تعز»، عاصمة الثقافة والجمال، وقلعة القاهرة التعزية، وسد مأرب التاريخي، وسوق الشنيني.

وتحضر شخصيات من التاريخ، مثل الملكة أروى، ويقودنا الكاتب إلى أمكنة خلّدها التاريخ وورد ذكرها في الكتب المقدسة، حيث يتجول بنا في منطقة «كهف أهل الرقيم»، الموقع وتلك القصة التي وردت في القرآن الكريم والتي تحمل في طياتها العجائب، ولعل العجيبة الأكبر أن يتجول المرء في ذلك الموقع، حقيقة لا خيالاً.

ولعل من أكثر اللحظات السردية التي بذل فيها الكاتب إبداعاً وصفياً حياً ومؤثراً، يجعل القارئ يتوقف كثيراً عندها، هي تلك اللحظة التي كثف فيها المؤلف من وصف مشاعره وما يحمله من شوق وحنين، وهي ساعة قرب معانقة الطائرة لمطار صنعاء، حيث قدم الكاتب وصفاً نابضاً بالحياة، ونقرأ عن تلك الصورة المشهدية البديعة: «مخترقة سماء العاصمة الأسطورية، مقتربة من مطارها الدولي استعداداً للهبوط التدريجي من ارتفاع 7000 قدم، ومن جانب جناح الطائرة الأيسر، أستطيع أن أرى جزءاً كبيراً من مدينة صنعاء، حيث أجلس قرب النافذة مستمتعاً بمناظر فريدة، في صنعاء تبهرني الصور والمناظر، أتنقل ببصري لأبعد مدى، حيث الجبال المحيطة الشامخة بكل كبرياء اليمن وحضارتها وتاريخها، ثم أنظر أسفل الطائرة إلى المساحات الكبيرة لأبنية وبيوت يغلب عليها طراز معماري قديم، لم يتغير عبر آلاف السنين».

ولئن كان العامري، قدّم عنواناً جذاباً وجميلاً للكتاب مستلهماً من نصوص البردوني، فهو كذلك ضمن كتابه عناوين شاعرية ولافتة ومؤثرة مثل: «اليمن.. جمال يوسف وأحزان أبيه وغدر إخوته»، وتناول في هذا العنوان الواقع الحزين ليمن كان سعيداً، وكذلك «هل سمعتم الأذان الصنعاني»، و«أفكار وأسئلة تملأ رأسي وصراع الثعابين» و«ضيوف العم سعيد»، وغير ذلك من العناوين لمواضيع تجعل القارئ في قلب اليمن يتجول في شوارعها وأزقتها ويجلس في مقاهيها، ويتأمل في تراثها وتاريخها العظيم.

منعطفات

ولعل من أجمل المنعطفات السردية الحية في الكتاب، تلك التي يتحدث فيها عن مملكة سبأ، لحظة الوصول إلى عرش بلقيس ومعبدها التاريخي، حيث يستدعي المؤلف تلك الشخصية التاريخية، ويجعلها تلتقي بالقراء لتحكي لهم قصتها، ونقرأ: «ساعتان من الخيال، لم تكونا كافيتين لسؤال بلقيس، وقد استحضرناها لشهادة تاريخية عند أطراف عرشها، لم تفصلنا عنها سوى ثلاثة آلاف عام فقط، سؤال عن أحوالها وحكايتها».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/nhfvnzah

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"