عادي
تناول إنساني بلا سوداوية لقصة اللاجئين السوريين

«السباحتان».. الأمل من رحم المأساة

22:45 مساء
قراءة 5 دقائق

مارلين سلوم
كم مدة الفيلم؟ هذا السؤال لن يراودك ولو للحظة وأنت تشاهد هذه الملحمة الإنسانية، يطول الفيلم لنحو ساعتين وربع الساعة، ويطول الخوف والقلق وأنت مشدود ومستمتع ومتشوق لمعرفة المزيد. لا تشبع من المشاهدة، تشدك معرفة أنك أمام أحداث حصلت في الواقع، ويشدك أكثر أن تعيش مع السباحتين الشقيقتين كل مراحل الانتظار والانتصار، وكأنك جزء من تلك القصة بتفاصيلها. تجد نفسك هناك، حيث يواجه الإنسان القدر ولعبة تحديد المصير، عليه اتخاذ القرار في لحظات تكون الخيارات فيها إما مرة وإما أكثر مرارة، اختيار الهروب والمجازفة بالحياة من أجل الحياة، والهروب من الموت لمواجهة الموت. «السباحتان» ليس مجرد فيلم ننصحك بمشاهدته على «نتفليكس»، إنما هو رحلة تعيشها بكل حواسك وتستمتع بكل هذا الإتقان في التصوير والكتابة والإخراج والتمثيل.

في الحديث عن فيلم «السباحتان» الذي عرض مؤخراً في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يمكنك البدء من الآخر، أي يمكنك القول مباشرة بأنه عمل رائع، ناجح بكل المقاييس، تحب مشاهدته وينتهي بعد ساعتين وربع الساعة، لكنه لا يغادرك، مشاهد كثيرة تعلق في ذهنك وتبدأ في التحرك في مخيلتك وفكرك وكأنك تعيد الشريط وتتوقف عند لقطات معينة، تعيشها من جديد، تتأثر بها أكثر، تدهشك سالي الحسيني المخرجة (المصرية الإنجليزية) غير التقليدية، تنطلق من نقطة معينة بإطار ضيق ومحدد ثم ترتفع وتتسع عين الكاميرا لتكبر المساحة ويكبر المشهد ويأخذ أبعاداً ومعاني كثيرة، خصوصاً مشهد عبور المهاجرين بعد وصولهم إلى الشاطئ، حيث يصادفون بعض سترات النجاة مرمية هنا وهناك، يرمون ستراتهم ويكملون السير فإذا بالسترات تزيد وتزيد، حتى ينتهي المشهد وأنت تراه من فوق، كأنهم وسط بحر من السترات البرتقالية والصفراء. آلاف يهربون من أتون ما، من حرب ما، جاؤوا من عدة دول علهم يجدون النعيم والأمان.

بشكل تقليدي روتيني، علينا أن نوجز في البداية حكاية الفيلم، لنقول بأنه يتناول قصة السباحتين يسرى (نتالي عيسى) وسارة (منال عيسى) مارديني منذ اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، وكيف كانت حياتهما هناك مع والدهما عزت مارديني (علي سليمان) ووالدتهما ميرفت (كنده علوش) وشقيقتهما الصغرى شهد. عزت يتولى تدريب ابنتيه على السباحة، لكنه يعلّق كل آماله على يسرى ويرى فيها بطلة مؤهلة لتمثيل سوريا في الألعاب الأولمبية المقبلة. وهذا التمييز بين الابنتين يجعل من سارة، وهي كبرى بنات مارديني، متمردة ورافضة للاستمرار في التدرب على السباحة، بينما يسرى مطيعة وحريصة على التقيد بتعليمات والدها، فهي من ستحقق حلمه الذي سعى إليه في شبابه حين كان مؤهلاً للمشاركة في الألعاب الأولمبية، لكن الخدمة العسكرية منعته من ذلك.

بداية الحرب في سوريا هي بداية انقلاب في الحياة الاجتماعية وحياة العائلات. المخرجة تقدم أحد أجمل المشاهد حين ترينا في كادر واحد وصورة واحدة السهر والرقص وسعادة الشباب فوق سطح ملهى، بينما القذائف تتساقط، ومدينة وبيوت تحترق في الجزء الخلفي من الصورة، وكأنها تختصر سوريا ما قبل وما بعد، الماضي والحياة الاجتماعية العادية والمبهجة، والحاضر المؤلم والمؤسف. اندفاع وتهور سارة يجعلها تقنع والديها بالسفر مع يسرى إلى ألمانيا كي تتمكن الأخيرة من المشاركة في الألعاب الأولمبية التي ستقام في ريو، وبما أن يسرى لم تبلغ الثامنة عشرة بعد، يمكنها التقدم بطلب لمّ شمل الأسرة في ألمانيا فتوافق السلطات على استقدام والديها وشقيقتها شهد، هكذا أخبرتها صديقتها التي هاجرت إلى هناك، وهذا ما تقنع به والدها ليوافق على سفر الفتاتين شرط أن يرافقهما ابن عمهما نزار (أحمد مالك).

طبعاً يسافر الثلاثي بالطائرة إلى تركيا، لكن الرحلة من هناك إلى ألمانيا تأخذ منحنيات مختلفة تماماً، ويجدون أنفسهم من ضمن المنتظرين ركوب زوارق الموت والمتسللين عبر الحدود بطرق غير شرعية، وتعتبر الرحلة بالزورق هي الأخطر والأكثر تميزاً بالنسبة للفتاتين، حيث تقرران السباحة وسط البحر من أجل التخفيف من حمولة الزورق الذي تعطل محركه وبدأ بتسريب المياه. تسبحان مسافة طويلة وبجانبهما الزورق فتنقذان كل من عليه من أطفال ونساء ورجال.

كاتبة الفيلم هي مخرجته سالي الحسيني، وتشاركت في الكتابة مع كاتب السيناريو جاك ثورن، في رؤيتها شيء مختلف، نظرة ترسل لك إشارات التفاؤل في زوايا معينة، في لقطات تعبّر فيها عن إرادة صلبة، تجعلك واثقاً من تلك البطلة يسرى مارديني، تماماً كثقة والدها بها وبقدراتها، كذلك يلعب اختيار الممثلة التي أدت شخصية يسرى دوراً مهماً، ففي عينيها حزن وفي ملامحها براءة ونقاء يجبرانك على تصديقها والتعاطف معها ومؤازرتها ودعمها، نعم دعمها وكأنك موجود معها وبجانبها في كل المراحل التي مرت بها.

سالي الحسيني التي عملت على التحضير للفيلم لأكثر من أربعة أعوام، عاشت التفاصيل فقدمتها بمشاعر وبعمق، تصويرها صادق سواء في مشاهد انتقال المهاجرين ما بين سوريا وتركيا وألمانيا والمجر واليونان، أو التصوير في البحر وفي أحواض السباحة وتحت الماء.. مشهد سقوط القذيفة في حوض السباحة، ومشهد عزيمة يسرى على السباحة مع شقيقتها في البحر لإنقاذ المركب ومن عليه من مهاجرين نساء وأطفال ورجال، وتخيل وجود حبلين يحددان المسار من وسط البحر إلى الأفق، حيث قرص الشمس.. مشاهد كثيرة تغني عن الكلام والحوار.

يحسب للمخرجة أيضاً حسن اختيارها للممثلين خصوصاً البطلتين الشقيقتين اللبنانيتين نتالي ومنال عيسى والمصري أحمد مالك الذي أجاد التحدث بالسورية مجسداً دور ابن عمهما نزار مارديني خفيف الظل العاشق للموسيقى الذي قبل بمرافقة ابنتي عمه في رحلتهما إلى ألمانيا أملاً في أن يصبح موزعاً موسيقياً مشهوراً. وطبعاً النجمة السورية كنده علوش التي تعتبر ضيفة شرف بأداء جيد لدور الأم، والفلسطيني علي سليمان والألماني ماتياس شفيجوفر الذي جسد دور المدرب الألماني سفين، والبريطاني جيمس كريشنا فلويد الذي لعب دور المهاجر عماد..

ربما أجمل ما في فيلم «السباحتان» أنه يبعث فيك الأمل طوال الوقت، ويريحك نفسياً فلا تشعر بالاكتئاب ولا لحظة، رغم أنه يتناول قصة شتات وحرب وقصف وهجرة غير شرعية وزوارق الموت ومأساة اللاجئين. ويبكيك خصوصاً لحظة الفراق وابتعاد الفتاتين عن حضن والديهما وشقيقتهما الصغرى، لكنك لا تجد نفسك أسير السوداوية ولا النحيب ولا القتامة والكآبة التي يعول عليها مخرجون كثر حين يتناولون قصصاً واقعية عن حرب ما وتمزق العائلات بسببها.

كيف تصل يسرى إلى أولمبياد ريو دي جانيرو 2016 وهي تعيش في مخيم للاجئين؟ ماذا يحصل للفتاتين ولعائلة مارديني؟ رسائل إنسانية كثيرة وجميلة تصلك من هذا الفيلم، وأهمها العزيمة وانتصار الإنسان على الشدائد والإصرار على النجاح من أجل تحقيق حلمه وأحلام الآخرين وآمالهم، حلم عزت مارديني وحلم المدرب سفين وحلم سارة ونزار وكل من لم يستطع السباحة وحلم رزان حداد صديقة الفتاتين التي استشهدت في الحرب..

الإنسان الأهم

الكتابة غير التشاؤمية مهمة، رؤية الكاتبين سالي وثورن للقصة من منظور غير سياسي، الاكتفاء بالجانبين الإنساني والرياضي يضع السياسة في الخلفية التي لا تشغل بال الجمهور وتبعده عن التحليل والتفكير في أسباب الحرب في سوريا وانتماء المسلحين المنتشرين في الشوارع إلى السلطة أم ضدها. الإنسان هو الأهم، حرية المرء وحقه في العيش. السياسة تغيب أيضاً عن الشق الأوروبي، يتجاوز صناع الفيلم مواقف الدول من اللاجئين عموماً، حيث يجمع مع السوريين لاجئين من جنسيات عدة، قادمين من الصومال والسودان وأفغانستان وإريتريا، وإن كان يلمح إليها في بعض المشاهد الحقيقية من شاشة تلفزيون تبث أنباء عن موقف ألمانيا مثلاً والتظاهرات وما يجري في سوريا من قصف ودمار.. هجرة غير شرعية، نصابون يستغلون المهاجرين، يأخذون المال ولا يؤمّنون لهم انتقالاً سليماً ووصولاً آمناً من بلد إلى آخر.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/8xku585a

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"