عادي
قناديل إماراتية

إبراهيم المُلّا.. الهارب من جِنّي المريجة

13:50 مساء
قراءة 4 دقائق
- جمع بين الثقافة الشعرية والسينمائية شكل من أشكال الفانتازيا أو الغموض أن تولد في مكان خرافات وحكايات شعبية وسرديات تقال عادةً في الليل.. فإذا ولدت في مكان كهذا، فأنت أقرب إلى أن تنمو لتصبح روائياً أو قاصّاً بضاعتك الأدبية هي السرد، غير أن إبراهيم الملّا - ولد في عام 1966 في منطقة الشويهيين المتاخمة للمريجة في الشارقة، ويقول عبدالعزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للتراث إن المريجة هي الأقدم عمرانياً وكثير من العائلات في الشارقة ورجال الإعلام والفكر خرجوا منها، ويقول المسلم إن الكثير من الخرافات ابتدعت في المريجة (ومنها جِنّي المريجة) حيث ولد إبراهيم الملّا، والذي لم يشاهد ذلك الجني، ولكنه يقول إنه عرف في الشويهيين عفريت البحر العملاق.. «.. الذي كان يشاع أنه يخيف الأطفال والكبار في وقت الليل حين يقتربون من البحر..».. في ذلك المكان الخرافي كانت الطفولة الأولى لإبراهيم، ولكن خرافات الليل والبحر والجنيات لم تجعل منه روائياً، بل هو مركب من شاعر وسينمائي، نشأ في عائلة متعلّمة، كان جدّه (مطوعاً) أو (رجل دين) وكان عمله تحفيظ القرآن، وكان يطلق على المطوّع لقب (الملّا)، ومن هنا جاء اسم عائلته التي كانت نشأتها الأولى في جزيرة أبو موسى.
ويروي إبراهيم الملّا للشاعر والباحث عياش يحياوي في كتابه التوثيقي «أول منزل» أن والده كان يعمل في شركة بريطانية اسمها (غولدن فالي) تستخرج «المغر» من كهوف جزيرة (أبو موسى)، وأعجبت الشركة بنشاطه ورأت أن تبتعثه إلى بريطانيا ليزيد مهاراته في اللغة الإنجليزية، لكن والدة إبراهيم وأهلها رفضوا سفر والده، لتضيع عليه تلك الفرصة، ويقول إبراهيم وهو يحدث يحياوي ويضحك أن والده كان ضحية الحب.
  • آكل الرمل
يروي إبراهيم هذه الحكاية أيضاً حين كان في الثالثة من عمره، فقد كان آنذاك - يأكل الرمل بشراهة، كما يقول، وبحسب ما رَوَتْهُ له أمّه فإنها استعانت بمطوّع ليقرأ على يده اليمنى، فراح إبراهيم يأكل الرمل بيده اليسرى، وحين - قرأ المطوّع على يده اليسرى (والقراءة هنا تعني قراءة آيات من القرآن الكريم) كان إبراهيم ينزل رأسه ويأكل الرمل بفمه مباشرة، ويقول، لقد قرأ المطوّع على جسدي كلّه ولم أعد آكل الرمل بعد ذلك أبداً...
أوردت هذه الحكاية هنا لما لها من دلالة معتقدية وشعبية في بيئة مجتمعية بسيطة يشكل فيها حضور المطوّع أو «المُلّا» عنصراً ثقافياً له سلطته الروحية التي لا - تُرَفَضْ ولا تُنَاقَشْ، وتظل هذه السلطة محيطة بالبشر والناس على كل مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، ثم، رويداً رويداً تبدأ الشخصيات أو الشخوص بالتكوّن الثقافي والروحي والمعرفي، وحتى الوجداني، فتتراكم في شخصية «الطفل إبراهيم»، ثم «الفتى» ثم «الشاب» سلسلة طويلة من الصور والمشاهد المركبة من الأمكنة والناس والأصوات والألوان، وبالطبع، لا ننسى قرب البحر بمراكبه وسفنه ومينائه من الشويهيين، وعلى مرمى حجر فقط من فضاء البحر تظهر بيوت العريش، وأشجار السدر، وتنهض شجرة الرولة، ومن الطبيعي أن يكتسب إبراهيم نزوعاً فطرياً إلى الفن من طرفين، طرف كتابة الشعر، وطرف كتابة السيناريو.
السينما ثقافة إبراهيم الرفيعة وهو بالمناسبة صديق السينمائي الإماراتي مسعود أمر الله الذي بدأ حياته شاعراً، لكن السينما أخذته كلّه في حين مسك إبراهيم العصا من الوسط، أبقى على الشعر، ولم يتجاهل السينما.
الصورة أساس النص الشعري عند إبراهيم، إنها الصورة المستعارة أصلاً - من مكانه الخرافي الأول، لكن كل ذلك لا يكفي. ما يكفي هو أن تقرأ وتقرأ. أخذ إبراهيم يقرأ التجارب الشعرية العالمية الفارقة: بودلير، رامبو، سان جون بيرس، جاك بريفير.. الشعر الفرنسي بشكل خاص الذي شغف به شعراء قصيدة النثر العرب، وكذلك الشعر الإنجليزي والأمريكي، والترجمات الروسية واليابانية والصينية إلى العربية. هذا خزانة معرفية عالمية أمسك بتلابيبها شعراء قصيدة النثر في الإمارات، وسوف يظهر إبراهيم من ضمن جيل قارئ لشعر العالم، وإلى جوار الشعر، شغف هذا الجيل بالسينما والموسيقى والتصوير والفوتوغراف.
في هذه البيئة الثقافية المحلية، نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، يظهر نضج إبراهيم الملّا الشعري، وتتبلور قراءاته وثقافته الشعرية والسينمائية على شكل مادة صحفية من وقت إلى آخر هي على درجة عالية من - الرقيّ والانتخاب والتدقيق، بلغة حيّة دائماً، هي أصلاً وجذراً لغته الشعرية.
كان فضاؤه الجيلي إن جازت العبارة:.. مسعود أمر الله، عبدالله عبدالوهاب، الهنوف محمد، وغيرهم من شعراء وشاعرات إمّا أنهم التقوا في الأفق الجميل للجامعة أو في الأفق الثقافي اليومي، وأذكر قبل نحو أكثر من عشرين عاماً أن هذا الجيل كان جيل الجماعات الأدبية أو جيل النشرات الأدبية، وكانت جماعة النوارس - تضم أصدقاء إبراهيم من الشعراء والشاعرات، لكن، سريعاً ما انفرط عقد هذه الجماعات، وأخذ - كل شاعر يبني بيته بحجارته، لا بحجارة الآخرين.
  • إصدارات
أصدر إبراهيم الملّا أولاً مجموعته (صحراء في السلال) ثم أصدر (تركت نظرتي في البئر). شعر الحياة أولاً وأخيراً. لا شعارات ضخمة، ولا وعود كبيرة لإنقاذ العالم بالشعر. بل عِقْد من الصور والبلاغة الخفيفة دائماً. الكلمات ليست ثقيلة لأنها مشغولة بالحبر لا بالنار ولا بالحجارة. ثم انظر إلى قراءة هذين العنوانين الدّالين: (صحراء في السلال) حيث يتسرّب الرمل ويصبح متاهة. شيء من متاهات بورخيس، ثم من بوسعه أن يقوى على جمع صحراء بأكملها في سلّة؟، فقط على الشاعر أن يستعين بمجازاته ورموزه وكناياته. مرة ثانية من دون وعود بأن تتحول القصيدة من فضاء اللغة والمجازات إلى - رغيف خبز.
(تركت نظرتي في البئر).. عنوان يحيلك إلى حكاية أو أسطورة نرسيس الذي تعلّق بصورة وجهه في الماء.
لكن الشاعر هنا يتخلّى عن كل شيء. إن أمكن القول إنه يترك صورته في البئر، والبئر يُحيل إلى العمق، العزلة، السقوط، الماء، العتمة، (قصة يوسف مثلاً)، وغيرها من إحالات ليست في بطن الشاعر كما يقولون، بل هي في بطن الصورة الشعرية. صورة من لغة وماء وضوء هي ميزة إبراهيم الملّا الشعرية، ليتخلّص ما أكله من رمل، ولكي يهرب بجلده من «جني المريجة».
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5aws2r6a

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"