عادي
قرأت لك

«أوراق الريح».. ومضات من فيض الذاكرة

00:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
إبراهيم مبارك - الغلاف

الشارقة: علاء الدين محمود

كثيراً ما يهتم الكتاب والأدباء بمقالات كتبوها للصحف، من أجل جمعها في كتاب، ولعل هذا الحرص نابع من كون تلك الكتابات تتعلق بمناسبات اجتماعية أو ثقافية أو حتى سياسية لها وقع خاص في قلب الكاتب، ومحطات عامرة بالشجون والذكريات، لكن ربما تكون الأهمية الكبرى لتلك المقالات في كونها لا تنفصل عن كتابات المؤلف في مختلف المجالات الأدبية، سواء الشعر أو الرواية أو القصة وغير ذلك، حيث تتسرب روح المؤلف إليها، فتصبح جزءاً من نتاجه الإبداعي.

الكاتب إبراهيم مبارك يعدّ من أبرز الوجوه الإماراتية والعربية في مجال السرد، وبصورة خاصة القصة القصيرة، وله كم كبير من المؤلفات القصصية، وهو من مواليد إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1952، حاصل على دبلوم معهد المدرسين، بكالوريوس علم نفس، دراسات عليا في التربية، وشغل العديد من المناصب الإدارية والثقافية في الدولة، وهو عضو في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، يحمل مبارك في مشروعه القصصي الهم الوطني، والأفق الإنساني، جعل من تفاصيل الواقع اليومي والحياة للناس العاديين مادة لمواضيعه السردية والانحياز للمهمشين، منذ نصه الأول الذي حمل عنوان «ضرب المضارب» عام 1974، الذي كان بمنزلة بداية لعشرات القصص الباذخة.

ألق

كتاب «أوراق الريح»، لإبراهيم مبارك صدر عن دار «العنوان»، للنشر والتوزيع، في طبعته الأولى العام الماضي 2022، هو واحد من المؤلفات التي يجمع فيها مبارك كتاباته الصحفية، حيث إن للكاتب، إلى جانب المجموعات القصصية، العديد من الكتب التي تضم مقالاته المنشورة في الصحف مثل «نواقيس» 2001، و«سواحل البحر»، 2001، و«صدى المسرح»، 2001، و«ضفاف الكلام»، 2007، و«صواري»، 2009، ليأتي هذا المؤلف «أوراق الريح»، ضمن تلك السلسلة العامرة بالألق الإبداعي، والمحتشدة بالمشاعر الإنسانية التي تأتي منسابة في دفق شعوري يفيض رقة بلغة شاعرية في العديد من هذه المقالات التي كتبت في أوقات مختلفة ومناسبات متنوعة؛ حيث إن المؤلف لم يتخلَّ عن أسلوبه الأدبي، الذي راكمته السنوات وصقلته التجارب، فكل مقالة في الكتاب كأنها قصة قصيرة بذات الأدوات والتقنيات من اختزال وتكثيف يفضيان إلى المعنى والفكرة مباشرة، إضافة إلى المتعة الحاضرة بقوة، أما على مستوى الموضوع فإن الكاتب قد اصطحب في تلك المقالات ذات اهتماماته بالقضايا الثقافية والاجتماعية، خاصة عوالم البسطاء والمهمشين؛ حيث تتجول الرؤى الفكرية في المقال دون أن تزعج القارئ، فالكاتب يمتلك القدرة الكافية على تمرير العوالم الثقيلة عبر جماليات الكتابة بقلم رشيق.

يقع الكتاب في 317 صفحة من القطع المتوسط، ويضم حوالي 80 مقالة متعددة في أغراضها ومناسباتها، وتحتشد بذكر الأماكن والمعالم والشخوص، مثل: «أماكن»، «دروب»، «حتا... طريق الجبال»، «الفنان والطريق»، «وادٍ» «مدن الصحراء»، «مقهى»، «زهرة القرنفل... زنجبار»، «سبخة مطي»، «المدينة اللؤلؤة والوردة»، «خور فكان... طنجة»، و«الرويس دلما»، وغير ذلك ممّا يشير إلى أثر فضاء المكان وعبقه المضمخ بعطر الماضي على الكاتب؛ حيث يأخذ المؤلف القارئ في رحلة نحو أمكنة زارها وشكلت منعطفاً في حياته، ويكاد الوصف، رغم الاختزال، يشعر المتلقي بأنه هو الآخر قد شاهد تلك الأماكن وزار معالمها.

ويتحدث في بعض من المقالات عن الأدب والثقافة في الإمارات في أزمنة متفاوتة، مثل «صوت الشاعر»، «معرض الكتاب»، «شأن ثقافي»، «هذا الشاعر... هذه القصيدة» «أيام المسرح»، «صومعة الفنان»، «الراعي... المسرح»، «ممرات الكتاب»، «ودائرة الثقافة»، وغير ذلك، ويفرد مقالة عن الأديب الراحل ناصر جبران، أحد رواد السرد في الدولة، يتحدث فيها المؤلف عن رحلته في الحياة وعالم الأدب ولحظة رحيله في عام 2017، ويقول المؤلف: «ترجّل ناصر جبران في موعد افتتاح معرض الكتاب بالشارقة، كان حديثي معه في المساء للقاء صباحاً في المعرض، كان فرحاً ومبتهجاً بأن عمله الأدبي سوف يصدر في هذا اليوم، وسوف يراه أول مرة، ولكن مضى هذا اليوم وأخذ أعز الأصدقاء معه، مفاجأة مثل اقتحامات الحياة ومفاجآتها الدائمة»، ويشير الكتاب إلى أن جبران قدم أعمالاً أدبية رائعة بين القصة والرواية والشعر، بالإضافة إلى كتابات أخرى مهمة، فجبران علامة وقامة أدبية لن تغيب عن الذاكرة.

عنوان الكتاب، مأخوذ من مقالة تحمل ذات الاسم «أوراق الريح»، وهي عبارة عن قطعة نثرية تصنع صوراً ومشهديات باذخة، وتطل على ألوان من الحياة، وتنقب عن الجمال فيها بأسلوبية بديعة، ونقرأ في جزء من تلك المقالة: «انظر لروعة الأشرعة التي تحملها الرياح إلى الموانئ والمدن البعيدة، انظر لجمال الطائر الذي يفرد جناحيه أمام الريح ويدعها تأخذه حيث تشاء، الطيور السابحة في الفضاء بحرية هي أجمل من كل شيء بديع عرفه الإنسان والبشرية قاطبة، إنه اتحاد حر بين الريح والأجنحة المنفرجة على الفضاء المفتوح»، النص بمنزلة أنشودة للحياة والجمال، والإعلاء من قيمة الحرية، ذلك الذي يؤكد عليه الحديث عن الفضاءات والأجنحة المشرعة، فكأنما الكاتب يتمنّى لو أنه ذلك الطائر الذي يجوب الفضاء بلا قيود، وجاء تصميم الكتاب ليشير إلى تلك المعاني؛ حيث حمل الغلاف صورة طيور تحلق في السماء والبحر من تحتها.

بيئة محلية

والملاحظة الجديرة بالذكر أن العديد من المقالات في الكتاب تحمل مفردات البيئة الإماراتية من بحر وصحراء ونخل ومطر وجبل وغير ذلك؛ حيث أكدت كلمة الإهداء على ذلك الأمر، تلك التي جاء فيها: «إلى روح والدتي، إلى المطر والبحر والريح»، ويكاد البحر يشكل حضوراً خاصاً في العديد من المقالات، ونقرأ في أحدها: «يمّم البحر وحلق بعيداً، هذا الأزرق الممتد إلى الأفق البعيد، أجمل وأروع من ركام الزمن هذا، ومن خذلان الوقت، اترك لهم الضجيج والانحناء للعاصفة واهتزاز الأرض والزلازل اليومية، اترك لهم الغناء أو العويل، اترك صراخهم وهذرهم الكثير، عانق الريح الباردة وارحل مثل شراع يعبر اليمّ، ضاعف عشق الأزرق الساكن فيك منذ البدء، لا تجادل الوقت، لا تحاور الخراب والحروب والصراخ، اجعل البحر والموج ساتراً بينك وبين هذه الأفواه الزاعقة أو المنفرجة على الفراغ، لتبيض فيها الغربان والبوم والزواحف»، هذا الجزء من المقالة هو بمنزلة قطعة أدبية تحمل مشاعر الشجن والحزن النبيل، ورغبة الأديب في العزلة والاكتفاء بالبحر، بلغة شاعرية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ms4jak8

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"