أمريكا تتخلى عن مبدأ حرية التعبير

00:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ندى جابر

لطالما تغنّى العالم الغربي بحرية التعبير التي اعتبرها حقاً أساسياً، وتمسك بالمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أُقر في باريس عام 1948، بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن يستهدف كافة الشعوب واعتمدته الجمعية العامة في الأمم المتحدة. وتنصّ هذه المادة على حق الفرد في تلقي الأفكار والأنباء، ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود.

وباسم حرية التعبير التي تطورت لتصبح ذريعة لانتهاك العقائد الدينية دون مراعاة لما تتركه هذه الانتهاكات من آثار سلبية أدت إلى تظاهرات واحتجاجات، ووصل الأمر إلى تهديد الأمن العالمي. لكن لا أمريكا ولا العالم أبدى رغبة في تفهّم أو استثناء التهجم على المعتقدات الدينية، وعلى رأسها الإسلام والموافقة على «الحظر».

بقيت حرية التعبير مرادفة لحرية الوجود وغير قابلة للنقاش. ولو عدنا إلى التاريخ لوجدنا ما هو أكثر، حيث استماتت أمريكا ودول الغرب في تقديس حرية التعبير.

لنعد إلى المناظرة الشهيرة التي استمرت سنوات في أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم (اليونيسكو)، تلك المناظرة المتعلقة «بالنظام العالمي الجديد للمعلومات والإعلام»، وكانت في غاية الأهمية لأنها عبّرت عن فلسفتين مختلفتين ومتواجهتين: فلسفة مجموعة المؤيدين ومجموعة المعارضين.

فريق يدعم حرية الإعلام بكل وسائله، بعض النظر عن كل الآثار الاقتصادية والثقافية التي سيؤدي إليها.

وفريق يدعم مجموعة أخرى من الدول التي تؤيد تدخل الحكومات في الحد من حرية التعبير، حفاظاً على المصالح الاقتصادية والثقافية والأمنية.

طويلاً كان المشوار الذي امتد لسنوات عانت فيها الدول النامية التي انضمت إلى «اليونيسكو» في الستينات من القرن الماضي، حيث تعرضت لكثير من التهكّم والاستهزاء من قبل الصحافة الغربية، وكانت تحاول أن توقف تدفق الأخبار الأحادي الجانب الذي يأتيها من وكالات الأنباء (المصدر الوحيد آنذاك). كانت تلك الدول حديثة الاستقلال تحتاج إلى «حظر» تدفق بعض الأخبار التي تسيء إلى أمنها القومي، وتحتاج إلى ترتيب بيتها الداخلي، بما يتناسب مع قيمها ومبادئها ولا يؤثر في اقتصادها، لكن لا أمريكا ولا العالم الغربي المسيطر على المنظمة كانوا مستعدين لتفهّم الظروف الخاصة بكل بلد.

وكي لا نُطيل الحديث عن تلك المناظرة التي استمرت لسنوت، وكان من تعنّت الولايات المتحدة وتمسّكها بمبدأ «حرية التعبير»، وإصرار الدول النامية على تفهّم حرصها على «حظر» كل ما يَمُس أمنها، ما جعل أمريكا تنسحب من المنظمة وتوقف تمويلها.

هذا الانسحاب أصاب المنظمة بكثير من الأذى، واستمر من عام 1985 إلى 1995، وتمادت فيه، حيث دفعت بريطانيا إلى الانسحاب ووقف التمويل، بينما سخّرت الصحافة الغربية كلها للنيل من المنظمة التي كانت تُبدي تفهماً لوضع الدول النامية، وتحاول جاهدة أن تتوصل إلى اتفاق مع الدول التي تتحكم فيها.

أما اليوم فالإعلام تغير. لم تعد وكالات الأنباء على الرغم من أهميها، تسيطر على المشهد الإعلامي، فقد حمل زمن التكنولوجيا معه الإعلام الإلكتروني والتطبيقات الاجتماعية. ومن جديد سعت الولايات المتحدة إلى السيطرة على التطبيقات الاجتماعية، لما لها من أهميها في تكوين الرأي العام العالمي، ولكونها تشترط الدخول في البيانات الشخصية للمستخدم وتستغل الأمر في تجميع المعلومات.

بقيت التطبيقات الأمريكية منتشرة وتحظى بملايين المتابعين حتى جاءت الصين بتطبيق «تيك توك». هذا التطبيق الذي انتشر بسرعة البرق ونافس بشدة، التطبيقات الأمريكية، بات اليوم يشكل خطراً على الولايات المتحدة التي فقدت توازنها، وهي تعد أرقام المتابعين للتطبيق الصيني، ما جعلها تنسى تاريخها الطويل في الدفاع عن حرية التعبير وتعلن «حظر» التطبيق في الهيئات الحكومية.

ليست أمريكا وحدها، فالمفوضية الأوروبية وكندا وغيرها من الدول الغربية اتخذت منحى تصاعدياً وصل إلى حد «الحظر»، حيث جاء على موقع «فرانس 24» في 2 3 2023 أن لجنة الشؤون الخارجية أقرّت في الكونغرس، قانوناً لتسهيل «حظر» تطبيق «تيك توك»، بذريعة تهديده للأمن القومي.

كما كتبت «بي بي سي» على موقعها في 23 2 2023 أن المفوضية الأوروبية تحظر تطبيق «تيك توك» على أجهزة موظفيها. والأمر نفسه في كندا، ويُنتظر أن يعم أكثر البلدان الغربية.

ونسأل أين أصبح قانون حرية التعبير؟ هل أمنكم القومي استثناء؟ وأين أمن الدول النامية التي ظُلمت لسنوات؟ وأمن العالم الإسلامي الذي انتُهكت حرماته لسنوات؟

اليوم أمام الخوف الأمريكي والأوروبي من الخطر، أصبحت «حرية التعبير» مسألة فيها نظر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2db5udz6

عن الكاتب

كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"