عادي
تسعة ترشيحات للأوسكار خرج منها بلا أي جائزة

«ذا بانشيز أوف إنيشرين» ضحكات تتبعها صدمات

22:45 مساء
قراءة 5 دقائق

مارلين سلوم

رغم أن الأجواء كانت توحي مسبقاً بأن فيلم «كل شيء.. كل مكان في نفس الوقت» سينال حصة الأسد من جوائز الأوسكار، إلا أن التوقعات كانت ترجح أيضاً أن ينال فيلم «جنيات إنيشرين» نصيباً لا بأس به من الجوائز، خصوصاً أنهما كانا الأوفر حظاً في الترشيحات، والأكثر حصداً للجوائز من مختلف المهرجانات العالمية؛ لذلك يعتبر خروج «ذا بانشيز أوف إنيشرين» خالي الوفاض بلا أي جائزة صدمة حقيقية لفريق العمل وللجمهور، رغم أن كل شيء في المسابقات الدولية متوقع، وقد اعتدنا أن يقلب الأوسكار الموازين أحياناً كثيرة.. وبالطبع، عدم الفوز في هذه المسابقة لا يعني فشل الفيلم، بل سيبقى علامة مميزة في عالم السينما.

إذا اعتمدت على قراءة التصنيف الرسمي لفيلم «ذا بانشيز أوف إنيرشين» أو «جنيات إنيرشين» -وسنتطرق لاحقاً لمعنى هذا الاسم-، فستحسب أنك ستشاهد دراما كوميدية عادية، وتتوقع أن تضحك وتبتهج بين الحين والآخر، لكن الفيلم يأخذك باتجاه آخر، يريحك من حيث الصورة والطبيعة الخلابة وأجواء الأرياف النائية والمواشي والهدوء والصمت.. ويضحكك في البداية الضحك الساخر، في بعض المواقف، ليصدمك بانتقاله بالدراما إلى مشاهد ومواقف عنيفة صعبة، حتى يخيل إليك أنك أمام فيلم رعب قد ينقلب إلى كابوس وينتهي بكارثة.

الصورة

هذه الصدمات نقاط قوة الفيلم وضعفه في الوقت نفسه، فمؤلفه ومخرجه مارتن ماكدوناه كتب قصة بسيطة عادية في ظاهرها، عميقة صعبة، بل حتى فلسفية في مضمونها؛ وبقدر ما كان حريصاً على تصوير الفيلم في جزيرتين إيرلنديتين حقيقيتين، أكيل وإنيشمور، ومنح الممثلين الأجواء المناسبة والمطابقة للأجواء التي عاشها أبطال القصة التي حدثت في عام 1923 (قصة خيالية ولا تستند إلى قصة واقعية)، بقدر ما «شطح» بخياله في الجزء الثاني من الفيلم فجعله قاسياً، وتحولت شخصياته الرئيسية من السكينة والملل والحياة الروتينية، إلى العنف المبرر لدى بادريك (كولين فاريل)، وغير المبرر لدى صديقه كولم (بريندان جليسون).

يبدأ الفيلم بمشهد علوي رائع يبرز فيه المخرج جمال الجزيرة الأيرلندية الخضراء والسماء الصافية والطقس البارد، والممطر أحياناً.. هدوء وسكون ريفي لا يعكره سوى بعض طلقات المدفعية الآتية من بعيد، إنها معركة تدور خارج حدود هذه الجزيرة «حرب أهلية»، كما يقولون؛ هذه الأصوات وهذه الحرب لا علاقة لها بالقصة سوى أنها ترسم حدود خيالنا كمشاهدين، كما ترسم حدود أهل جزيرة إنيرشين، فتشعر بأن الجزيرة بعيدة ومعزولة، ولا علاقة لسكانها بما يجري في العالم الخارجي، ولا يعرفون عنه سوى ما يسمعونه من طلقات يصل صداها إليهم، وما يقرأونه في الصحف التي تصلهم بين الحين والآخر، أو من الرسائل التي يتلقاها بعضهم عبر البريد.

1

أول مشهد

بادريك يذهب في أول مشهد إلى منزل كولم كي يترافقان إلى الحانة، ككل مساء، يناديه مراراً ويتحدث إليه، بينما يبقى كولم صامتاً، لا يفتح الباب لصديقه، ولا يرد عليه رغم أنه يجلس على كرسيه يرى ويسمع، ويدرك جيداً ما يحصل. وما إن يدخل بادريك الحانة حتى يستغرب كل الرجال هناك غياب كولم، ويبادرونه بالسؤال عنه، فيجيبهم باستغراب أنه لا يرد، هنا يتعمد المؤلف تكرار عبارة «هل تشاجرتما؟»، على لسان كل من يصادفه بادريك، حتى شقيقته الوحيدة شيبون (كيري كوندون)، ما جعل بادريك يطرح السؤال على نفسه «هل تشاجرنا؟»، ولا يهدأ له بال ويعود للبحث عن صديقه كولم، ليسأله «ما الذي قلته أو فعلته كي تغضب مني؟».. بعد كل هذا الإلحاح يأتي جواب كولم الصادم لصديقه: «لم تقل شيئاً، لم تفعل شيئاً، لكنني لم أعد أحبك»؛ هذه العبارة هي الأساس الذي بنيت عليه القصة، فجأة يقرر أحدهم أن يقاطع صديقه المقرب والذي لم يكن ينفصل عنه أبداً، وفجأة يكتشف أنه لم يعد يكنّ له المودة.. قد تستغرب الأمر وتعتبره مجرد خيال مؤلف ودراما الهدف منها التصعيد وخلق حالة إنسانية معينة، لكنك تكتشف لاحقاً أن السبب منطقي، وقابل للحدوث في الحياة؛ كولم يعيش مرحلة «صحوة» تجعله يعيد حساباته بكل ما يفعله في حياته، هنا يكتشف أن الباقي من العمر قليل، وأقل بكثير مما فات، وهو لم يحقق شيئاً يخلد مروره على هذه الأرض، شيئاً يتذكره به الناس بعد رحيله، وأن مع صديقه محدود التفكير يمضيان الوقت في الثرثرة الفارغة والجلوس في الحانة والحديث عن الحيوانات، ولا يكف بادريك عن التحدث عن حماره المفضل «جيني»..

غبار الملل

ماكدوناه يكتب بعمق، يحلل الشخصيات، بادريك لم يستوعب ولم يتقبل ما قاله كولم، بالنسبة إليه طبيعي أن يتحدث طوال الوقت عن الحمار، وعن الطقس، والماشية والأرض.. فالجزيرة نائية، وسكانها معدودون، الكل يعرف بأصغر حدث وبكل ما يحدث لأي كان، فمن أين يأتي بالجديد وحياته وتفكيره محدودان؟ أما كولم فهو فنان يعزف الكمان، استسلم للحياة الروتينية «التافهة» كما يسميها، ثم تشبّع، وأراد أن ينفض عن نفسه غبار الملل ويستعيد حيويته بالعزف وتأليف الألحان، وتدريس الموسيقى لمن يرغب من سكان الجزيرة، والجزر المجاورة. شقيقة بادريك شديدة الذكاء، مثقفة، تعشق القراءة، تشتري الكتب وتطلبها من كل من يأتي إلى الجزيرة، تحمي شقيقها من تنمّر أي أحد، حتى من غضب صديقه كولم حين شككه في نفسه ونعته بالتافه والممل، فأقنعته بأنه رجل لطيف، وليس مملاً.

طلب كولم الابتعاد عن بادريك لأنه يبحث «عن سلام القلب»، منطقي إذا نظرت إليه بتجرد، وغير منطقي وجارح إذا فكرت فيه من وجهة نظر بادريك الرجل البسيط الرافض التخلي عن صديقه، بل الرافض تصديق أن صديقه لم يعد يرغب في التحدث إليه، فجأة، وجد نفسه وحيداً بلا مقدمات، مرفوضاً، تائهاً.. مارتن ماكدوناه يجعلك تُستفز في البداية من تصرف كولم، ثم تعذره بعدما يستفزك بادريك بإصراره على التحدث إلى صديقه، رغم كل ما يلقاه منه من رفض وتعنيف لفظي، ليصل الحال بكولم لأن يهدد بقطع إصبع من يده كلما تحدث إليه بادريك، راجياً إياه الابتعاد عنه كلياً، وحتى عدم إلقاء التحية.. لم يأخذ بادريك هذا الكلام على محمل الجد، فذهب إلى كولم، وأصرّ على التحدث إليه ليفاجأ ببدء تنفيذ القرار «العنيف» وقطع إحدى أصابع كولم..

هنا ننتقل إلى عنف مخيف مع استكمال رحلة العتاب والتنافر بين الصديقين، ومواصلة كولم تنفيذ قراره فيقابل الأذى بأذى أكبر، ولا ينعكس سلباً على الصديقين فقط، بل يتضرر أيضاً المحيطون بهم، ويكتمل يأس بادريك مع قرار شقيقته مغادرة الجزيرة بحثاً عن حياة ومستقبل أفضل. تناقضات تتنازع أبطال العمل، كولم الفنان العازف المؤلف لمقطوعة موسيقية هادئة كلاسيكية، أطلق عليها اسم «شجيرات إنيرشين»، وفي نفس الوقت يتعامل بعنف مع صديقه ومع نفسه، والعنف ينعكس على بادريك بعد طول إصرار ومحاولات تبرير لتصرفات صديقه فيرد بعنف أكبر في النهاية.

استخدام الرموز

يكثر المؤلف من استخدام الرموز، فأغلبية تصرفات أهل الجزيرة تدل على عُقد يحملونها في نفوسهم، وكلها تشير مجتمعة إلى أنهم يدورون في فلك ضيّق، ويعرفون كل شيء عن بعضهم بعضاً، وكل منهم يعاني من كبت ما.. كذلك يعيد ماكدوناه اسم «جنيات إنيرشين» إلى خرافات وجود جنيات، ويجسدها بامرأة عجوز تشبه جنيات القصص الخرافية، تتجول في القرية، وتزور باستمرار شيبون، بينما يرفض وجودها أو تصديقها بادريك، تدعي قراءة المستقبل بينما في نظرتها وكلامها سوداويان وتشاؤم مستمر.

أداء النجوم فاريل وجليسون وكوندون يستحق الإشادة والجوائز، التصوير والفكرة والإتقان في اختيار الأماكن وكل التفاصيل هي نجاح لمارتن ماكدوناه رغم أخذنا عليه جنوحه نحو العنف في مشاهد قاسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/v67snmfp

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"