عادي

«البحر».. تراجيديا تغني أنشودة الحياة والفناء

19:30 مساء
قراءة 4 دقائق
علي أبو الريش

الشارقة: علاء الدين

محمود ربما كان البحر من أكثر المفردات البيئية الإماراتية التي وجدت حظاً كبيراً من التناول في مؤلفات وبحوث وكتابات إبداعية، فهو يكمل، إلى جانب الصحراء، لوحة الوطن الخالدة المتنوعة والثرية بألوانها المختلفة، ولئن كان بعض المؤرخين والباحثين قد تناولوا الحياة بقرب البحر والواقع الاجتماعي وتفاصيله اليومية، فإن الأدباء ينظرون إلى تلك الحياة بصورة مختلفة وأكثر إبداعاً، بما فيها من تفسير مختلف وتأويل عميق.

كتاب «البحر في الذاكرة الإماراتية.. تراجيديا الحياة والموت»، لعلي أبوالريش، الصادر في طبعته الأولى عن دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي عام 2019، هو من المؤلفات التي تحكي عن البحر وتتحدث إليه وتناجيه وتستنطقه وتسبر أغواره العميقة، حيث الأسرار والحكايات الغريبة والأساطير؛ إذ إن الدراسة كُتبت بواسطة روائي، فلابد أن يكون للسرد مكان، وكذلك للغة الشاعرية المرهفة، التي لا تميل إلى التوثيق المباشر، بقدر ما هي حوارية ومحاولة لفك الطلاسم لهذا الكائن صاحب الأثر الحاضر في حيوات البشر الذين يسكنون على ضفافه، ويتشبعون بقيم وعادات وتقاليد هي من عمق تأثيره.

والكتاب لا يتناول فقط تلك الصورة المثالية المرسومة والشائعة عن البحر، بل يفرد صفحات كذلك عن حياة أخرى فيها القسوة والصعوبة والوحشة والأوجاع، فالذين ينظرون إلى جمال اللؤلؤة، المستخرجة بواسطة الصيادين من أعماق البحر، لا يلقون بالاً إلى حجم الصعاب التي واجهت الصياد، والجهد والبذل الذي بذله، وبالتالي فإن الكتاب يقدم غوصاً عميقاً في حياة غير مرئية، ويرسم لوحة أخرى يجمع فيها التفاصيل الصغيرة المهملة والمنسية، حتى يشكل مشهداً عاماً وكاملاً.

*سطوة الكتاب، كما تقول المقدمة، يركز بصورة أساسية على أثر البحر وحضوره في الذاكرة الإماراتية من صور فينومينولوجية؛ أي ما يختص فلسفياً بعلم الظواهر المؤثرة في الذهنية الفردية، كما هي راسخة في اللاشعور الجمعي لدى المجتمع، فالبحر ليس لساناً مائياً مجاوراً لليابسة فحسب، بل هو وجود حياة، وملاذ وجود، فضلاً عن أنه مصدر جلال بما يكتنفه من سطوة على الوجدان الإماراتي، فالبحر الذي كان مخزن رزق، كان أيضاً الهوة السحيقة التي ابتلعت أرواحاً، فالسفر البعيد، في أعماق البحر، كان محفوفاً بمخاطره، كما كان الغوص في أحشاء البحر نقطة تجمع الحياة والموت.

والكتاب يقع في 312 صفحة من القطع الوسط، ويشتمل على ثمانية فصول؛ يتناول الفصل الأول جلال البحر وجمال الوردة، بينما يتعمق الفصلان الثاني والثالث في تعريف الخرافة والطقوس ووظيفتهما في اللاوعي الجمعي والضمير الكوني كمخزن للذاكرة، ويسلط الفصل الرابع الضوء على أسطورة «بابا درياه» في الإمارات، وعلاقة وجدان البحر بوجدان الإنسان، و يسأل «هل للبحر وجدان وهل للإنسان مشاعر مؤجلة؟»، والحب عكس الخرافة.

*صور شعرية يتناول الفصلان الخامس والسادس غموض الخرافة في تضادها مع وضوح الحقيقة، والإنسان ككائن وهمي، والبحر في وعي الإنسان، والبحر الواسع في علاقته مع الأنا الضيقة، أما الفصل السابع فيقدّم الكاتب فيه قراءات في الشعر المرتبط بالبحر بعنوان «شعر البحر، بحر الشعر في الإمارات»، في استعراض شائق لحضور البحر في النص الشعري وجماليته، والحالة الشعرية في وعيها بالبحر، وإمبراطورية الحلم والخرافة، وصورة الحلم أو طقس الخرافة، وتجربة الواقع والحياة، واتساع الوعي داخل أسوار القصيدة، وطمع الخرافة، بينما يتناول الفصل الثامن والأخير تلك المجاورة والحوارية البديعة بين البحر والصحراء، فهذه الأخيرة هي بمثابة البيت، بينما البحر هو الكون الذي يطرح وصيته بتغيير الوعي لتأتي الحقيقة، وتذهب الخرافة.

ويتناول الكتاب موقع البحر ومكانته في الوجدان الإماراتي، فهو بمثابة ترياق للحياة ضد الموت؛ إذ إن البحر، كما تقبع في بطنه الدرر، فهو كذلك يحمل خطر الفناء، ذلك عندما تزمجر الريح، وتكشر الأمواج عن أنيابها، ويبدو الفراغ المدلهم لحظة هياج بحري مراوغ، لا يبدو عليه التسامح، هكذا يرسم الكتاب صورة للبحر، ويلونها بطبشورة سوداء داكنة، تتوغل في الوجدان مثل عشبة سامة تقتل الإنسان، وعبر تلك الكلمات والتشبيهات البلاغية والمجازية والمشهديات، يرسم الكاتب صورة حقيقية للبحر بعيداً عن تلك الصور الذهنية التي غذيت ورسخت في الأذهان.

وبطريقة جدلية، يستمر الكتاب في تناول موضوع الموت وإرادة الحياة لدى إنسان البحر، في مغالبته اليومية للمصاعب والأخطار؛ ليفرد الكتاب صفحات عن فكرة الموت في الحضارات القديمة والحديثة وتفسيرها عند أبرز علماء النفس، فلولا وجود الحياة لما فكر الإنسان بالموت، كما هو الحال لولا وجود الأسوَد لما عرف الإنسان شيئاً اسمه الأبيض، ولما فكّر في الجميل لولا وجود القبيح، فهي التناقضات التي تجعل أهمية للأشياء، كما تستبقيها في الوعي كقطبي المغناطيس، فعلى الرغم من خوف الإنسان، فإن وجود الموت هو الذي جعل من الحياة قطباً آخر نقيض الفناء، يسعى إليه الإنسان، ويقاوم من أجل أن يكون حياً.

ويذهب المؤلف، مستصحباً فكرة الحياة والموت والفناء، ليتناول الصحراء، التي تجاور البحر، فعندما ينظر إليها الإنسان ويتأمل مكوناتها المهيبة، ينتابه الشعور بالضآلة حيال ما يكتنف الصحراء، فهي تضم الأشجار العملاقة، وبين دروب هذه الصحراء تختبئ المخلوقات المتوحشة، فماذا كان بإمكان الإنسان الضئيل أن يفعل حتى يتوخى الحذر من الفناء؟ بداية بصناعة أدوات الحماية التي توفر له سبل البقاء. والكتاب يميل في أكثر من مواضعه إلى تناول الموضوعات والمفاهيم بطريقة فلسفية هي نتاج التأمل والتفكير العميق.

ولئن كانت مقدمته، لافتة، فإن كلمات الخلاصة التي وضعها المؤلف جاءت وهي تحمل ألقاً شعرياً خاصاً؛ إذ يقول في وصف البحر، ذلك الكائن الغريب والغامض: «لجلال البحر ورقصة الموج جنون وعبقرية الوجود، ولصوت النهّام عزف على أوتار اللهفة المباركة، وللسفر البعيد في أعماق الحلم، تبدو الحياة رحلة طويلة محملة بحركة المجذاف ورفرفة الأشرعة، ولكليهما رونق الصدق وبهجة الفردانية وقوة الإرادة، وَعْد أبدي يرسم ملامح الوجود بريشة الأصابع الدامغة في أحشاء المحارات التي كانت في حضور الغواص، تبرز حقلاً كونياً يمزج بين الماء والعرق، ويسرج خيول الأشواق في الأحشاء».

1
الغلاف
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycy2nzc9

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"