الشارقة: علاء الدين محمود
الحزن مشاعر شديدة الخصوصية، لأنها تتعلق بصاحبها وحده، لا يستطيع أحد آخر أن يحس ما يشعر به الشخص الذي وقع عليه الوجع، لذلك فإن الكثير من المفكرين والأدباء وعلماء النفس يعتقدون أن الحزن أمر يشوبه الكثير من الغموض، وهناك الكثير من المؤلفات حوله في شتى صنوف المعارف، ولكن في الأدب فإن الحديث عن الحزن يكتسب أبعاداً مختلفة، وهناك الكثير من الروايات والأشعار والقصص التي نسجت من قماشة أوجاع الحزن.
رواية «تدوينات عن الحزن»، للكاتبة النيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي، التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2021، بترجمة: فهد الطاسان، هي من المؤلفات السردية التي غاصت بعمق في موضوع الحزن من خلال تجربة خاصة لبطلة الرواية، حيث يقدم العمل العديد من الصور والمشهديات التي تعبر عن الألم الذي يسببه الشعور بالحزن، وكيف يؤثر على الأفراد، وكيف تشتعل الذاكرة بالمواقف التي تجمع الإنسان بالأحبة الذين فقدهم. الرواية تحتشد بأسئلة قلقة تقدم بعض الإجابات التي تشير إلى أن الفائدة الكبرى من الشعور بالحزن هو أن الإنسان الذي يعيش تجربته هو قادر على الحب، كما أن الحزن هو وسيلة وطريقة في التعلم، رغم أنها طريقة فادحة الثمن.
*حكاية
ولعل مصدر قوة الرواية أنها تجمع بين فني السرد الروائي وكتابة المذكرات، لأن تلك القصة هي التي عاشتها الكاتبة نفسها، فهي نتاج تجربة ذاتية مع الوجع والألم، عبرت عنها المؤلفة ببراعة فائقة، وقدمت دار روايات إضاءة عن الرواية بالقول: «تأخذنا تشيماماندا، في هذا الكتيّب، إلى حِدادها جرّاء فقدها والدها، كان والدها الحبيب فرداً أساسيّاً في العائلة، يلتفّون حوله ويعشقونه، وبرحيله اختلّ توازنهم جميعاً. إن زيارتها من خلال الكلمات لتفاصيل والدها الصغيرة ورحيله تُظهر أن الناس سواسية أمام الحزن، وأنّه يوحّدهم في الألم، كما وحّدهم فايروس كوفيد-19 فلم تستطع السفر من الولايات المتحدة الأمريكية لتكون جوار جثة والدها لتراه للمرة الأخيرة وتودّعه»، والرواية تقدم صوراً عما حدث للعائلة جرّاء فقد والدهم وعائلهم، حيث عملت على نقل مشاعر أفراد تلك الأسرة المكلومة، وكيف تعاملوا مع هذا الحدث، خاصة أن أحداث الحكاية جرت في وقت شديدة الصعوبة على مستوى البشر في كل العالم عندما أنشب وحش «كورونا»، القاتل مخالبه وأظافره وأسنانه في أجساد الناس، فدخل الحزن والألم والموت في ذلك الوقت في كل بيوت الكرة الأرضية، لتضعنا الرواية أمام مشاهد مركبة من الأحزان والأوجاع.
* مقاومة
عبر الكتابة عملت تشيماماندا، على مواجهة الحزن، كانت تلك سلوتها، وفي ذات الوقت وسيلتها للخروج من سيل المشاعر القاسية والسالبة، وذلك ما قررته في كلمات أنهت بها هذه التحفة السردية، وتقول في مقطع الرواية الختامي: «لا يهم لو أنني أريد التغير، لأنني تغيرت فعلاً صوت جديد يُظهر نفسه من خلال كتابتي مملوء بالقرب الذي أشعر به نحو الموت، يجب عليَّ أن أكتب كل شيء الآن، لأنه لا أحد يعلم الوقت المتاح لي».
* لغة شاعرة
اللغة لعبة تشيماماندا، وعبرها نسجت تفاصيل رواية متعطرة بالشعر، تتميز بالدفق الشعوري الصادق الذي يعبر عن مشاعرها، وبالأناقة في اختيار الألفاظ والمفردات ذات الجرس الموسيقي، ولعل اللافت في هذا المقام هو الإهداء الذي تصدر الرواية، والذي جاء فيه: «جيمس نوبي أديتشي»، وذلك هو والدها بطل الرواية الحقيقي، الذي تدور كل تفاصيلها ولفتاتها ومنعطفاتها وتداعي ذكرياتها عنه، وحياته بينهم، أي أسرته، لم تستخدم عبارة كلمة «الراحل»، ولم تتحدث عنه في السرد وكأنه قد مضى من غير رجعة، بل وكأنه لايزال مقيماً بينهم، كما أنها لم تسبق اسم والدها بكلمة «أبي»، لأنها لا تريد أن تؤكد ما هو مؤكد، أو لربما لأن والدها بالنسبة لها كان أكثر من أب، وهذا ما عبّرت عنه في العديد من تفاصيل الرواية، حيث كانت تكره كلمات النعي التي ترسل إليها تلك التي تتضمن كلمة «كان»، فوالدها مازال حياً في داخلها رغم خبر نعيه الصادم.
* تعبير
ومن ضمن تقنيات وأسلوبيات المؤلفة في هذا العمل البديع، تبرز تلك المقدرة الفائقة لدى الكاتبة في التعبير عن الذات، عن الأحاسيس المكبوتة والمتدفقة، والمشاعر المتناقضة، هو نوع مختلف في الوصف، غير الذي يتناول الأماكن والمعالم والشخوص، بل وصف لعوالم غير محسوسة وليست مرئية، وذلك لأمر شديد الصعوبة، لكن المؤلفة وبحكم التجربة الخاصة مع الوجع استطاعت أن تلج إلى مناطق مظلمة في النفس البشرية، وتغوص في فيض الذكريات، وتعبر عن كل ذلك بلغتها الفريدة، بحيث يصبح كل مقطع وكأنه نص شعري أو نوتة موسيقية، وإلى جانب تلك الأبعاد الجمالية، عملت الكاتبة كذلك على أن تأتي الرواية محمّلة بالرؤى الفكرية والفلسفية المتأملة في الكون والوجود والإنسان وفلسفة الموت والحياة، لتخرج بمجموعة من المفاهيم والمقولات ذات القيمة الجمالية والفكرية في ذات الوقت.
* صدى
الرواية وجدت صدىً كبيراً وتبارى العديد من النقاد والكتاب والصحف الأمريكية تحديداً للإشادة بها، وكذلك بقية أعمال الكاتبة حيث حصلت على عدد من الجوائز وبرزت صورتها في واجهات صحف أمريكية مرموقة، كما صنفت بعض رواياتها كروايات العام من قبل صحف أمريكية واسعة الانتشار مثل:«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«شيكاغو تريبون» وغيرها، ذلك لأن الكاتبة عاشت في الولايات المتحدة ونالت جنسيتها، ووجد هذا العمل تحديداً الكثير من التناول نسبة للغة الأدبية الرفيعة والإتقان السردي الذي يجعل القارئ متورطاً تماماً مع الأحداث والشخوص، بل ويبادل تلك الأسرة المكلومة مشاعر الحزن، لقد نجحت الرواية في نقل تلك الأحاسيس الخاصة إلى الفضاء العام، وكأنها أرادت من العالم كله أن يشاركها ذلك الحزن الذي عبرت عنه بالنواح في صدمته الأولى ثم الصبر وأخيراً الحكمة والتعلم من الحزن.
* خلفية
هنالك خلفية يجدر ذكرها، لأنها تقدّم إضاءة عن الرواية نفسها، حيث إن الكاتبة لقيت شهرة كبيرة جداً في الولايات المتحدة، مما حدا بعصابة في نيجريا القيام بخطف والدها، وذكرت المؤلفة أن ما أنقذ أبيها من يد الخاطفين أنه كان يمتلك الجنسية الأمريكية، الأمر الذي جعل السفير الأمريكي في نيجيريا يتدخل في الأمر حيث توصل إلى تسوية مع الخاطفين، والكاتبة تشير إلى تلك الواقعة في العمل.
*إضاءة
تُعد الكاتبة والروائية تشيماماندا، المولودة في عام 1977، في نيجيريا، من أشهر الروائيات في أفريقيا، وكذلك في الولايات المتحدة التي احتضنتها ومنحتها جنسيتها، حيث بدأت دراستها الجامعية في بلادها الأم «نيجيريا»، ثم في أمريكا، ولها العديد من المؤلفات السردية التي وجدت صدى مدويا جعلت منها واحدة من أهم الأصوات الروائية في العالم اليوم ومن تلك المؤلفات السردية للكاتبة: «زهرة الكركديه الأرجوانية»، و«علينا جميعاً أن نصبح نسويين»، «عزيزتي هاجر، أو مانيفستو نسويّ في خمسة عشر مقترحاً»، و«أمريكانا»، و«نصف شمس صفراء»، و«ذلك الشيء حول عنقك».
* اقتباسات
«الحزن أكثر طرق التعليم قسوة».
«الصدمة أن يصبح الهواء غراء».
«أنا لست مستعدة للبؤس».
«كيف للعالم أن يمضي، يشهق ويزفر دون توقف، فيما روحي مبعثرة».
«صنعت صناديق وحبست أحزاني بين ألواحها المتينة».
«هناك نعمة في الإنكار».
«كيف يمارس البشر حياتهم بعد فقد أب حبيب».
«الذين يشعرون بالحزن الحقيقي محظوظون لأنهم أحبوا».
«طبقات الخسارة تجعل الحياة تبدو هشة ورقيقة».
الناشر: دار روايات