القاهرة – «الخليج»
يقدم هارولد بلوم في كتابه «خريطة للقراءة الضالة» (ترجمة عابد إسماعيل) إرشاداً في النقد العملي للشعر، وكيفية قراءة قصيدة، استناداً إلى نظرية الشعر المقدمة في كتابه «قلق التأثر».
القراءة كما يشير العنوان فعل متأخر، وهي تشمل كل شيء، سوى أنها (أي القراءة) مستحيلة، وهي نوع من سوء القراءة، خاصة عندما تكون قوية، فالمعنى الأدبي ينزع دائماً لأن يصبح أضعف حضوراً، كلما كانت اللغة الأدبية، التي تعبر عنه أقوى وجوداً، قد لا يكون النقد دائماً فعل حكم، لكنه دائما فعل حسم، وما يحاول أن يحسمه هو المعنى.
يدرس كتاب «خريطة للقراءة الضالة» التأثر الشعري، الذي يتجاوز تمرير الصور والأفكار من شعراء سابقين إلى شعراء لاحقين، التأثر كما يتصوره بلوم، يفترض أنه لا يوجد نصوص بإطلاق، بل علاقات بين النصوص، هذه العلاقات تعتمد على فعل نقدي، وعلى قراءة ضالة، أو سوء قراءة، يمارسها شاعر على آخر، وهذا لا يختلف من حيث النوع عن الأفعال النقدية الضرورية، التي يمارسها كل قارئ قوي، على أي نص يواجهه.
علاقة التأثر تشمل، تبعاً لذلك، القراءة، مثلما تشمل الكتابة، ولهذا فإن القراءة تكون قراءة ضالة، مثلما تكون الكتابة سوء قراءة، وبينما يمتد التاريخ الشعري وينمو، يصبح الشعر برمته نقداً شعرياً، مثلما يصبح النقد برمته شعراً نثرياً.
الفصول الخمسة الأولى من هذا الكتاب مكرّسة لنظرية وتقنيات القراءة الضالة، أو «سوء القراءة» والفصول الستة الأخيرة مكرّسة لأمثلة تأويلية: قصائد ميلتون، وردزورث، شللي، كيتس، ويتمان، ديكنسون، وأشبري.
في النصف الأول من الكتاب تم القيام برحلة إلى الوراء نحو الأصول الأدبية، بحثاً عن خريطة للقراءة الضالة.
نتيجة للارتباط الوثيق بين الأصول الشعرية والأطوار الشعرية النهائية، تتجه الرحلة في البدء إلى تقصي الكيفية التي يتشكل من خلالها التقليد الأدبي، ثم تعكف على تتبع مصادر تلك العملية في المشهد البدئي للتعليمات، وأخيراً تتأمل مفهوم التأخر، هذا التأمل يركز على التأثر كاستعارة دفاعية لفعل القراءة/ سوء القراءة.
يقول بلوم ببساطة: إن القصائد ليست حول موضوعات، وليست حول ثيمات القصائد بالضرورة، هي حول قصائد أخرى، القصيدة هي رد على قصيدة أخرى، تماماً مثلما أن الشاعر رد على شاعر آخر، أو الشخص رد على عائلته، في محاولته كتابة قصيدته يعود الشاعر إلى الأصول، إلى ما كانت القصيدة تعني له في الماضي، وبالتالي يعود إلى ما وراء مبدأ اللذة، وإلى اللقاء البدئي المصيري، والرد الذي كان سبباً في بدايته كشاعر.
الروح الحارسة
وحده الشاعر يتحدى الشاعر كشاعر، وبالتالي وحده الشاعر يصنع الشاعر، بالنسبة للشاعر في الشاعر، القصيدة هي دائماً الإنسان الآخر، السلف، وهكذا القصيدة دائماً شخص، وهي دائماً أب لولادة المرء الثانية، لكي يحيا، يجب على الشاعر أن يؤول الأب بشكل ضال، عبر فعل سوء القراءة المصيري، وهذا بمثابة إعادة كتابة للأب. لكن من هو الأب الشعري؟ صوت الآخر، صوت الروح الحارسة، يتكلم دائماً داخل المرء، الصوت الذي لا يمكن أن يموت، لأنه نجا لتوّه من الموت، الشاعر الميت يعيش في المرء، في الطور النهائي للشعراء الأقوياء، يحاول هؤلاء الانضمام إلى الخالدين، عبر حياتهم في الشعراء الموتى، الذين يحيون لتوّهم فيهم.
يوضح بلوم أن العودة الأخيرة للموتى، تذكرنا نحن القراء بالباعث الأصلي وراء كارثة التجسد الشعري، فالقصيدة تكتب لكي تهرب من الموت، القصائد حرفياً هي أفعال رفض للفناء، لكل قصيدة، بناء على ذلك، صانعان: السلف، والفناء المرفوض للشاعر الصاعد.
الشاعر ليس إنساناً يتحدث إلى الناس، بقدر ما هو إنسان يتمرد ضد من يتكلم إليه من الموتى (الأسلاف) الأكثر حياة بشكل مروّع من ذاته نفسها، والشاعر لا يجرؤ على اعتبار نفسه متأخراً مع ذلك لا يستطيع أن يقبل ببديل لرؤيته الأولى، التي يعتبرها رؤية سلفه في المحصلة، التأثر الشعري في سياق هذا المعنى، ليس له علاقة تقريباً بالتشابه اللفظي بين شاعر وآخر، فقلق التأثر يختلف غالباً عن قلق الأسلوب.
بما أن التأثر الشعري هو بالضرورة قراءة ضالة، استقبال أو سوء تعامل مع هذا العبء، سيكون من المتوقع أن تخلق هذه العملية من سوء التشكيل والتأويل الضال، على أقل تقدير، انحرافات في الأسلوب فيما بين الشعراء الأقوياء.
يرى بلوم أن الشعراء الأمريكيين تمرّدوا بشكل صريح على أصوات أجدادهم (أكثر بكثير من الشعراء البريطانيين) بسبب جدل إمرسون ضد فكرة التأثر ذاتها، وإصراره على أن المضي بشكل إفرادي، يجب أن يعني رفض حتى النماذج الجيدة، وهذا يفترض بالتالي قراءة من جانب الشاعر، يكون فيها بشكل رئيسي مخترعاً.
يضم الكتاب في نهايته شهادات حول هذا العمل، ومنها ما كتبه إدوارد سعيد: «يستغرب المرء لماذا لم يكن الكتاب موضوعاً للدراسة النقدية من قبل، كتاب هارولد بلوم القوي يعمق ويوسع خطوط الرؤية التناصية، التي وضع أسسها في كتابه «قلق التأثر» ثمة بصيرة تنظيرية وفصاحة شعرية تكفي أي قارئ، بل تكفي وتزيد» يقدم بلوك في هذا الكتاب، كما في سابقه، نظرية كبرى وإشكالية تذهب عميقاً إلى جذور فعل القراءة.