خالد عبدالله سيار الحوسني*
في عالم يتغير بإيقاع سريع، تبقى المنطقة العربية ساحة لتفاعلات معقدة تتشابك فيها عوامل الجغرافيا والتاريخ، والتنوع السياسي والاجتماعي، من بين أبرز هذه التفاعلات تبرز ديناميات «التباين» بين الدول العربية، كظاهرة مزدوجة الوجوه: تحمل في طياتها فرصاً استراتيجية، كما تنطوي على تحديات تهدد بتقويض العمل العربي المشترك إن لم تُحسن إدارتها.
يتجلى التباين العربي في اختلاف المواقف تجاه القضايا الإقليمية المحورية، من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى العلاقة مع القوى الدولية كإيران وتركيا ومروراً بملفات الأمن القومي والتكامل الاقتصادي. تجارب السنوات الأخيرة كشفت هذا التباين ليس بالضرورة عامل ضعف، بل قد يمثِّل مصدر قوة إذا أُعيدت هندسته ضمن آليات تنسيق مرنة تضمن تعددية المواقف من دون تقويض المصلحة العربية العامة.
لقد مكّن تعدد المواقف بعض العواصم من لعب أدوار وساطة حيوية، كما أسهم في تشكيل قنوات خلفية للحوار ونقل رسائل التهدئة بين أطراف متنازعة، ما مكن من احتواء التصعيد في أكثر من مناسبة.
يُظهر التباين في المواقف العربية تجاه الأزمات الإقليمية فعاليتَه في تحقيق نتائج ملموسة، ففي الحرب على غزة (2021-2023)، تكاملت الأدوار بين الدبلوماسية والمساعدات والوساطة، ما أدى إلى وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. وفي اليمن، أتاحت المواقف المختلفة لدول مثل عُمان لعب دور حيوي في التمهيد لتفاهمات إنسانية، أما في السودان، فقد سهَّل تنوع الاستجابات العربية إيصال المساعدات ورعاية تحركات مشتركة، ما يبرز إمكانية توظيف هذا التباين لبناء توازنات إقليمية جديدة.
من منظور استراتيجي، يمكن اعتبار هذا التباين «توزيعاً ذكياً للأدوار» يوفر مرونة تكتيكية، لكنه يشترط وجود تنسيق سياسي يمنع تحوله إلى تصادم ويُقترح إنشاء آلية تنسيق مرنة لإدارة الخلافات في القضايا الحساسة، فالتجربة التاريخية، كما في أزمة غزو الكويت عام 1990، تُثبت أن غياب هذا التنسيق قد يؤدي إلى نتائج كارثية، مثل الاختراق الخارجي وترسيخ الانقسام العربي.
اقتصادياً وقد أدت السياسات المختلفة إلى تباين في النمو، لكن هذه الفروقات يمكن أن تصبح مصدر قوة عبر التكامل الوظيفي. فالدول الغنية توفر التمويل، بينما تقدم الدول الأخرى الأسواق والأيدي العاملة. وتُعد مبادرات مثل «الربط الكهربائي العربي» والصناديق الخليجية في شمال إفريقيا أمثلة على هذا التكامل، الذي يتطلب رؤية اقتصادية جماعية قائمة على المصالح المتبادلة لا المنافسة الصفرية.
ثقافياً، يمثل التنوع الحضاري العربي مصدر قوة ناعمة محتملة، إذا تم تأطيره مؤسسياً عبر مبادرات مشتركة (مثل الجزيرة الوثائقية أو مجمع اللغة بالشارقة)، يمكنه صياغة سردية عربية موحدة تدعم الاستقرار، وتواجه الاستقطاب وتشكل رادعاً للتدخلات الخارجية. لكن غياب آليات تنسيق ثقافي وإعلامي مستقرة يُفقد المنطقة أداة مهمة في التنافس الدولي على التأثير.
أمنياً واستراتيجياً، يمثل التباين تحدياً وفرصة، فغياب التنسيق يسمح بالتدخلات الخارجية، بينما يمكن أن يعزز -إذا تم توجيهه- مرونة الاستجابة عبر توزيع الأدوار الاستخبارية والعسكرية.
يكمن التحدي الرئيسي ليس في وجود التباين، بل في غياب إدارته بذكاء. فالمطلوب ليس إجماعاً جامداً، بل منظومة تنسيق مرنة تضع حداً أدنى من التفاهمات الاستراتيجية وتمنع تحول الخلافات إلى تصادم أو شلل جماعي.
رغم أن التباين قد يكون مفيداً لتوزيع الأدوار، إلا أنه غير مقبول في مواجهة التهديدات الوجودية أو العدوان السافر على دولة عربية، في هذه الحالات الحرجة، يتحول التباين تلقائياً إلى وحدة صف وهذا الإجماع الضروري لا يمثل فقط موقفاً أخلاقياً وسياسياً، بل هو أيضاً رسالة ردع استراتيجية تمنع أي طرف خارجي من استغلال الانقسامات العربية، كما أن هذا التضامن يُرسل رسالة قوية للطرف المعادي، ما يدفعه لإعادة حساباته قبل أية خطوة عدائية، خوفاً من خسارة مكاسب اقتصادية وسياسية وأمنية تفوق ما قد يحققه من مكاسب مؤقتة.
خلاصة القول: التباين ليس ضعفاً في حد ذاته، بل هو أداة مرنة والفرق بين التحدي والفرصة يكمن في طريقة التعاطي معه، فإما أن نُعيد هندسة هذا التباين كرافعة استراتيجية لصياغة مستقبل عربي مشترك، أو نتركه مساحة مفتوحة للتوظيف الخارجي والاختراق البنيوي للقرار العربي.
* ماجستير في السياسة والتجارة الدولية