محطة الرمل شاهد على التاريخ

إيطالي أسس فيها "ترام" الإسكندرية
00:59 صباحا
قراءة 5 دقائق

الزائر للثغر، لا يمكنه بحال أن تفوته فرصة المرور على محطة الرمل بمدينة الإسكندرية في مصر، والتي تعد ثاني أكبر المدن بعد العاصمة، فالمحطة ليست بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ إنها أكبر من أن تكون محطة، أو نقطة وصول أو انتظار أو تجوال .

المحطة الأشهر في مدينة الثغر اختزلها كثير من سكانها في إطلاق وصف محطة الرمل عليها، نسبة إلى الترام المركزي الذي يمر بها، وتعود شهرتها إلى كونها من أقدم المناطق على الإطلاق في الإسكندرية، فضلا عن تاريخها الذي يصنف بأنه الأبرز في المناطق المصرية . والمنطقة تجذب الزائرين إليه بانتشار العديد من الصروح الفخمة، من فنادق ومبانٍ ودور عبادة، إلى غيرها من العمارات التي تعود عمارتها إلى الطراز المعماري الفلورنسي .

يقف وسط الميدان تمثال للزعيم الراحل سعد باشا زغلول، نحته الفنان الشهير محمود مختار عام ،1938 حيث يجذب الناظرين إليه والمارين فيه بعبق ما يضمه، ليتأمل الزائرون تلك الصروح، التي تضارع بعمارتها إلى حد كبير ما هو قائم في المدن الأوروبية، ولا غرو في ذلك إذ إن الطراز المعماري في الإسكندرية يكاد يشبه الطرز الأوروبية، وخاصة اليونانية والفرنسية والإيطالية، نظرا للبعد التاريخي بإقامة جنود هذه البلاد في الإسكندرية، إما محتلين لها، وإما زائرين لها .

وتقع المحطة وسط مدينة الثغر، وتطل على ساحل البحر المتوسط بكورنيش الإسكندرية، والذي يطل عليه تمثال قائد ثورة ،1919 حيث يتوجه سعد زغلول بوجهه في شموخ وإباء إلى كورنيش المدينة، وكأنه يعلن التحدي لمياه الأمواج، كما كان يتحدى مستعمريه .

هذه الأمواج كثيراً ما هاجمت منطقة الشاطئ، من خلال النوات التي تصيب المدينة في موسم الشتاء، فتسبب النحر، ما جعل إدارة المدينة تنشئ مصدات لمواجهة هذه الأمواج، وهو النحر الذي يسبب الكثير من التشويه لبانوراما شواطئ الإسكندرية، حتى إنها لم تتوقف عندها وفقط، بل تهدد من وقت إلى آخر قلعة قايتباي التاريخية، والتي يمكن أن يراها الواقف في ميدان المنطقة على امتداد البصر، وعلى جانبي الشاطئ .

ومع إشارات الماضي التليد إلى المنطقة، يبدو عليها أنها تعرضت لتغيير كبير، ولكن لم يمس تاريخها القديم، وهذا ما يظهر على عمارة العديد من المنشآت، بفعل الحداثة، الناتجة عن امتداد الزحف العمراني، والتي تسببت فيها الكثافة السكانية، إلا أنه على الرغم من ذلك كله فإن شواهد المحطة لا تزال باقية تدل على أصالتها، وأصالة ما فيها من صروح ومبانٍ . ولم يقف هذا التغيير عند حدود ما تضمه المحطة من صروح، بل طرأ على اسمها ذاته، حيث كانت تعرف قديماً باسم مسلة كليوباترا، حتى تحول هذا الاسم إلى مسماها الحالي، فيما أطلق على المنطقة المتاخمة للمحطة اسم المسلة، وهي القريبة من منطقة الازاريطة .

محط أنظار المشاهير

توصف المحطة بأنها المركز التجاري الأهم في مدينة الإسكندرية، وجاء الإطلاق عليها، لكونها ساحة يمر في وسطها ترام الإسكندرية المركزي، وهو الترام الذي يبدو في تصميمه الإرث الإيطالي، نتيجة للوجود المكثف الذي كانت توجد فيه أبناء هذه الجالية، إضافة إلى ذلك فهي تضم مكتب بريد واتصالات، ومجمعاً للجمعيات الاستهلاكية . والزائر للمنطقة يجذبه فيها مبنى الغرفة التجارية الذي صممه المعماري الفرنسي فيكتور لارانجير عام ،1910 ويتفرع منها العديد من الشوارع الرئيسة منها شارعا صفية زغلول وسعد زغلول .

وفي المنطقة نفسها ميدان يحمل اسم سعد زغلول، وهو الميدان الواقع فيه تمثاله، ويجاوره فندق عريق هو فندق سيسل التاريخي، الذي يتسم بطراز معماري فريد، إضافة إلى جامع القائد إبراهيم، ومبنى القنصلية الإيطالية بالإسكندرية، ومبنى إدارة كلية الطب في جامعة الإسكندرية .

وتعد محطة الرمل واحدة من أهم المناطق التي يرتادها زائرو الإسكندرية، وليس هؤلاء وفقط، ولكن من سكانها أنفسهم، حيث يفدون إليها من أنحاء شتى في الثغر، يقضون أوقاتهم نهارا في مياه البحر، ويتسامرون في حديقتها إذا حل بهم المساء .

كل هذا يعكس أن المنطقة هي الأهم في الثغر، فيما يروى تاريخيا أنها ظهرت في الوجود مع تدشين ترام الإسكندرية، وأن المهندس الإيطالي الشهير أنطونيو لاشياك هو الذي وضع تصميمها في العام ،1887 ومن بين من وقفوا عند المحطة يأتي الروائي الانجليزي لورانس داريل، مؤلف رباعية الإسكندرية، فضلاً عن عدد كبير من الأدباء مصريين وأجانب، فمن المصريين عاش فيها مبدعون كبار أمثال الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ، والأديب الراحل توفيق الحكيم، والشاعر الراحل أمل دنقل، والأميرة فوزية والملكة نازلي، كما وقف في المنطقة مبدعون أجانب آخرون، منهم البريطاني إي إم فورستر، والشاعر الفرنسي جان كوكتو، والقائد البريطاني الماريشال برنارد مونتجمري، بينما حظيت المنطقة بزيارات لعدد آخر من الفنانين والأدباء، أمثال نجم الروك العالمي ألفيس بريسلي، والروائية الإنجليزية أجاثا كريستي، وأسطورة الملاكمة العالمية محمد علي (كلاي)، والنحات البريطاني العالمي هنري مور .

وتحكي الكاتبة الصحافية أمل الجيار في كتابها يوميات إسكندرية 1882 حكاية تشهد عليها المنطقة، في ظل ما تعرضت له الكاتبة من تخطيط للمدينة على يد الإسكندر المقدوني، إضافة إلى تناولها أحداثاً جساماً، ألقت بظلالها على تاريخ مصر المعاصر .

وتذكر الجيار أن أهالي الإسكندرية استيقظوا في صباح أول يوليو/تموز 1798 على وصول الأسطول الفرنسي إلى شواطئها، ليزاح الستار عن الحملة الفرنسية على مصر . ولم يكن في الإسكندرية من الجنود ما يكفي لصد الجيش الفرنسي الكبير المزود بالمعدات الحديثة .

لكن لم يمنع هذا حاكم المدينة آنذاك محمد كريم من الدفاع عنها بكل ما لديه من ذخيرة وعتاد وقاد المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين حتى بعد أن اقتحموا أسوار المدينة، الأمر الذي كلفه حياته ففي يوم 6 سبتمبر/أيلول 1798 أصدر نابليون بونابرت أمراً بإعدام محمد كريم ظهراً في ميدان القلعة رميا بالرصاص .

وبالفعل تم تنفيذ الحكم في المنطقة بالقلعة ويقال إنه عند وصوله إلى القاهرة أركبه الفرنسيون حماراً يحيط به موكب من العسكر على دقات الطبول ومشوا به حتى المحطة، حيث أعدم رمياً بالرصاص ثم قاموا بالتمثيل به عن طريق قطع رأسه وتعليقها على نبوت (عصا غليظة) ونادى منادٍ قائلا: هذا جزاء كل من يخالف الفرنسيين .

كان ذلك كله قبل أن يظهر الترام في المنطقة، وقبل أن يقترن اسمها به، بما يؤكد أن المنطقة كانت عبر عصور التاريخ شاهدة على أحداث منه، وفي الوقت نفسه عاكسة للتطور المعماري والعمراني، الذي يشتهر به الثغر، على مدى عصورها، ما جعلها منطقة لا تعرف السكون، سواء كانت في الصيف أم في الشتاء، فالصخب هو شعارها، والحركة هي سمتها، وهو ما يلاحظه مصطافون وزائرون لها على مدار العام .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"