حين تبوح الجرأة بما لا يباح

05:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبدالله الهدية الشحي

كان الحجاج بن يوسف الثقفي من أخلص قادة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، وكان الأقرب إليه ولاءً وطاعة، بل وكان صاحب الفضل الأكبر في تثبيت أركان البيعة له، ولكنه حين تجاوز حدوده مرة قال له عبد الملك: «إن في بعض الولاء نفاقاً، وفي بعض الجرأة وقاحة، ولا يشفع ولاؤك لوقاحتك»، فليت هذه المقولة تصل إلى أسماع من وظفوا وأنابوا أنفسهم بأنفسهم فأصبحوا يتحدثون ويصرحون وكأنهم لسان حال مسؤوليهم، حتى أوهموا الجميع من كثرة تكرار أقوالهم وادعائهم المستمر بأنهم هم أهل الحل والعقد والمشورة والرأي عند هذا المسؤول أو ذاك، وليت الأمر توقف عند هذه الجرأة ولم يصل إلى حد الوصاية على ما تكنه قلوب الناس، وإلى الكفر بكل وسائل الحوار الهادف.
يقال بأن من قوانين عزة النفس ألّا تكرم من أهانك، وألّا تحنو على من قسا عليك في حال ضعفك، وألّا تحن إلى من تخلى عنك وقت الحاجة إليه، وألّا تلجأ لمن أضل طريقك عمداً، وألّا تشتاق إلى من استغنى عنك حين وجد من يغنيه عنك، وسامح ولكن لا تنسَ؛ حتى لا تلدغ من ذات الجحر مرتين، وميز بين من يحبك لأنه يحتاجك، وبين من يحتاجك لأنه يحبك، وتقبل الآخر وتعايش مع أخيك الإنسان تحت مظلة الإنسانية وبمبدأ لكم دينكم ولي دين، واعلم بأنك غير ملزم بالإيمان بصحة عقيدته أو فكره، ولكن الواجب عليك منافسته فيما ينفع البشرية.
يقال بأنه في حال غياب الوعي العام يتحول ثلث المجتمع إلى قضاة، والثلث الثاني إلى متهمين، والثلث الأخير إلى محامين، والمضحك هنا أن كل هذا يحدث من دون وجود قضية ذات شأن، وقد لا توجد أي قضية تذكر أصلاً، والمتتبع للواقع من خلال مواقع التواصل المجتمعي أو من خلال الجدل الدائر فيها وفي كثير من المنتديات واللقاءات المباشرة يسمع ما يشيب منه الولدان حين يتحول الجدل، ولا أقول الحوار، من أيقونة الفكرة إلى فضاء الشخصنة، ليكيل بعد هذه المرحلة كل طرف للآخر وابلاً مما لا يليق أن يسمع أو يذكر من النعوت، وغيرها مع الإيحاء بالمحسوبية على هذه الجهة أو تلك، بينما الواقع يقول ما قاله الخليفة عبدالملك بن مروان للحجاج لا يشفع ولاؤك لوقاحتك.
يقول المثل الشعبي، الكلمة الطيبة تخرج الحية من جحرها، واختيار الألفاظ الرائعة أجمل وأوسع طريق لدخول القلوب من دون استئذان، فقد رأى الخليفة عمر بن الخطاب مجموعة من الناس، وقد أوقدوا ناراً، فاقترب منهم، ونادى «يا أهل الضوء»، ولم يقل: «يا أهل النار»؛ خشية أن تحرجهم الكلمة، وحين سأل أحد الأشخاص الإمام الغزالي عن حكم تارك الصلاة أجابه قائلاً: حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد، وأخيراً سأذكر هذه الحكاية للعبرة ليس إلا: قامت شركة «مرسيدس» الألمانية بتهنئة نظيرتها شركة «بي إم دبليو» بمناسبة مرور مئة عام على تأسيسها، وجاءت التهنئة بداعي ومشاعر المنافسة، فقد أرادت أن توصل إليها رسالة مضمونها أن المرسيدس أعرق بثلاثين عاماً، وكانت التهنئة كالتالي: (شكراً لكم على مئة عام من المنافسة، ولقد كانت الثلاثون عاماً السابقة فعلاً مملة)، فقامت شركة «بي إم دبليو» بردها الذي لم يكن أقل إبداعاً من تهنئة منافستها؛ حيث عرضت صورة لشاحنة «مرسيدس» محملة بسيارات «بي إم دبليو»، وقد كتب على الصورة: «شكراً مرسيدس لنقل السعادة إلى الناس».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"