قوة الكلمة وسحرها في الوقت الذي نؤمن فيه بالحكمة التي تقول: «فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل»، وفي ذات الوقت الذي نؤكد فيه على أن الفعل في كل أحواله أشد تأثيراً من القول، وأن التعلم بالقدوة التي تعتمد على الفعل خير من التعلم بالتلقين والحفظ، علينا أن نؤمن أيضاً بقوة الكلمة وأهميتها في التغيير الإيجابي وفي الموقف التعليمي التعلمي، فقد ورد في محكم التنزيل قوله تعالى: «الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان». وقال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام «إن من البيان لسحرا». وقد سئل حكيم أين الجمال؟ فقال: الجمال في اللسان وقيل في هذا الشأن: عقل الرجل مدفون تحت لسانه لهذا يقال: تكلم كي أعرفك لكون اللسان هوية المرء.
تستمد الكلمة من صاحبها القوة ومن قائلها التأثير فتخلق التغيير وتفتح أبواب التواصل المغلقة وتقوي الروابط وتشد أواصر الائتلاف إن كانت تحمل طاقة الصدق والإيجاز وقوة التأثير كما هو حال هارون الرشيد حين بعث لعامله في خرسان بهذي العبارة «داوِ جرحك لا يتسع» وحين كتب لآخر: «كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت أو اعتزلت».
وتعمل الكلمة الطيبة عمل السحر الحلال في احتواء الخلاف ولنا في رسالة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه التهديدية إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان في شأن عمال مزرعته التي قال فيها: إلى معاوية ابن هند آكلة الأكباد.. أما بعد: فإن عمالك قد دخلوا إلى مزرعتي، فمرهم بالخروج منها، فو الذي ليكونن لي معك شأن، فلما وصلت الرسالة لمعاوية وكان من دهاة العرب في الحلم قرأها ثم قال لابنه يزيد ما رأيك في ابن الزبير أرسل يهددني، فقال له أرسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه، فقال معاوية بل خير من ذلك زكاة وأقرب رحماً. وكتب إليه رسالة قال فيها: من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير (ابن أسماء ذات النطاقين) أما بعد فو الله لو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك، فإذا وصلك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك، فإن جنة الله عرضها السماوات والأرض. فلما قرأ عبد الله الرسالة بكى حتى ابتلت لحيته وسافر إلى معاوية وقبل رأسه.
الكلمة صناعة والكلمة قوة ناعمة وتخليد ذكرى إن اعتمدت على العمق في المضمون. ولنا في قصة مرثية أبو الحسن في الوزير محمد بن بقية وزير عز الدولة بن بويه الذي غضب عليه عضد الدولة حين ظفر على ابن عمه فقبض على ابن بقية وأمر أن تطأ عليه الفيلة بأرجلها حتى الموت ثم أمر بصلبه فقال فيه أبو الحسن الأنباري المرثية الخالدة التي جاء في مطلعها: علوّ في الحياة وفي الممات... لحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا... وفود نداك أيام الصلاة... الخ.
الكلمة سحر في التأثير، فقد طلب أحد الملوك من وزيره أن ينقش له جملة إذا قراها وهو حزين يسعد، وإذا قرأها وهو سعيد يحزن، فنقش بعد تفكير على الخاتم: هذا الوقت سوف يمضي. والكلمة قد تغير من حال حيث تقول إحدى الحكايات بأن أم أحد الملوك قد توفيت فهجر الملك قصره وقومه وبقي عند قبر أمه يبكي ليل نهار وقد عجز قومه عن إعادته لما كان عليه فمر به حكيم وقال له بعد أن عرف قصته: الحمد لله الذي أعزها بموتها قبلك ولم يذلها بموتك قبلها، حينها أدرك الملك معنى العبارة وعاد إلى مملكته.
عبد الله الهدية الشحي
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا
