«المتملقون» في «دافوس»

02:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
آنا بالاسيو *

مدريد عامان من الارتباك مر بهما «إنسان دافوس» وهو الوصف الذي ينطبق على أعضاء نخبة النخبة في العالم الذين يتجمعون كل عام للمشاركة في المؤتمر الرائد الذي ينظمه المنتدى الاقتصادي العالمي بهدف بحث التحديات التي يواجهها العالم. فبعد عقود من الابتهاج والاحتفال بالقبول العالمي الواسع للنظام العالمي الليبرالي القائم على القواعد، وجد متعهدو هذا النظام والمستفيدون الرئيسيون منه في بعض الحالات أنفسهم مضطرين للدفاع عنه وحمايته من هجمات الكبار، وأبرزهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. لكن بدلاً من المواجهة، بدوا خاضعين مستسلمين.

في العام الماضي، سيطرت حالة من الاضطراب على المشاركين في دافوس ترقباً لتنصيب ترامب، والذي تزامن مع اليوم الأخير من اجتماعات المنتدى. فقد صار وشيكاً حينها أن تخضع الولايات المتحدة لقيادة رئيس يروج بصوت عال لشعار «أمريكا أولا» كهدف مستقبلي، ومن ثم فقد بحثوا بتلهف عن بطل جديد للعولمة. وما أن استقرت أنظارهم على الرئيس الصيني شي جين بينج، حتى برزت بوادر الشقاق الأولى في التزامهم بتقديم الأفكار والقيم على النفعية والمصالح الخاصة.

وفي عامنا هذا الذي شهد أول مشاركة فعلية لترامب في دافوس نجد أن السد قد انهار. فحتى قبل أن يبدأ الحدث، كان بإمكانك أن تسمع تبريرات لسلوك ترامب، ومناهجه قصيرة النظر في التعامل مع قضايا مثل التجارة، إضافة إلى اندفاعاته الشعبوية. وتراهم يقولون إن رئاسة ترامب ليست مجنونة، بل براجماتية.

وقد ازداد هذا الشعور قوة بعد الخطاب الذي ألقاه ترامب في دافوس والذي أكد فيه أن شعار «أمريكا أولاً لا يعني أمريكا فقط». وبعد عام من التخبط والتساؤل عن مصير العولمة المستأنسة وأفكار الليبرالية الجديدة الأليفة، وجد أهل دافوس ضالتهم متمثلة في دليل جديد يهتدون به، ألا وهو البراجماتية. ولا ينبغي لنا أن نفرح بذلك.
لا شك أن البراجماتية في الأساس ليست شيئاً سيئاً، فالأوروبيون أمثالي يدركون جيداً مخاطر صناعة السياسات على أساس غير كاف من البراجماتية. لكن نظاماً قائماً على البراجماتية وحدها حيث تبرر الغايات الوسائل ولا تعني القيم شيئاً لا يمكن أن يكون نظاماً قوياً أو مستقراً.
أما عن ترامب، فليس من الواضح حتى أن يتبع نهجا براجماتيا في المقام الأول. وبالتأكيد هناك من يقول إن تعامله على المسرح الدولي هو أسلوب رجل أعمال يسعى لتقوية موقفه التفاوضي، حتى يستطيع ترويض وتنظيم أعضاء المجتمع الدولي المتمردين الذين دأبوا على تحصيل منافع دون بذل مقابل. ويرى أصحاب هذه النظرة أن ترامب ينفذ نوعاً من التعديل الهادف إلى تحقيق السيادة، بعد فترة طويلة من التجاوز الدولي، ويطالبنا هؤلاء بأن نحكم عليه بأفعاله لا أقواله.

فلننظر إذاً إلى أعماله. على الرغم من كل المكاسب التي حققها مؤشر داو جونز الصناعي خلال العام الأول من ولايته (وهي استمرار لصعود بدأ في عهد الرئيس باراك أوباما)، فإن تصرفات ترامب حتى الآن جاءت مشوشة قطعاً.
كما أتاحت انفعالاته الغاضبة الفرصة لديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونج أون بأن يقدم نفسه عمليا كصانع سلام مقارنة بترامب وهو تطور قد يفتح الطريق أمام هذا النظام للاحتفاظ بترسانته النووية لفترة أطول في المستقبل.
كما تملق ترامب حكومة «إسرائيل» بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولتها، متعهدا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس العام القادم، وذلك دون حصوله على تنازل واحد في المقابل.
وقد يجادل المدافعون عن ترامب ويتهموننا بتتبع تصرفاته الخاطئة، فقد نفذ على سبيل المثال وعده بشأن خفض معدل الضرائب المفروضة على الشركات في الولايات المتحدة، لكنها خطوة أضافت مزيداً من الوقود لسوق الأوراق المالية التي ارتفعت إلى عنان السماء.
إن «المتملقين» في دافوس بخيانتهم بهذه السهولة للقيم التي طالما شكلت أساس النظام العالمي الليبرالي القائم على القواعد مثل قيم التعددية والديمقراطية وحكم القانون يثبتون بطلان النظام بأكمله. ولا يعتبر ذلك تصحيحاً، بل تدميراً، وسوف يلحق الضرر بنا جميعاً. وعلى أية حال، يظل النظام العالمي الليبرالي، رغم حاجته المؤكدة للإصلاح حتى يتسنى له الوفاء بالمزيد مما وعد به، هو أملنا الأفضل.

* وزيرة سابقة للخارجية الإسبانية، والنائبة الأولى لرئيس البنك الدولي سابقاً، والمقال ينشر بترتيب مع«بروجيكت سنديكيت»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"