مستوى آخر من الوعي

02:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبيد
بصرف النظر عن أي تفاصيل قد تتكشف خلال الأيام القليلة المقبلة، حول التفجير الانتحاري المزدوج الذي استهدف مقهى في حي جبل محسن في طرابلس اللبنانية، وتبنته "جبهة النصرة" الإرهابية زاعمة أنه جاء "انتقاماً لقتل المسلمين السنة في سوريا ولبنان"، وبعيداً عن لغة الأرقام التي لا تلتفت إلا لحصيلة الضحايا، وتسقط القيمة الإنسانية العليا التي يتم انتهاكها في كل هجوم إرهابي، تبرز بشكل أكثر وضوحاً مسألة السلاح الفتّاك الذي تستخدمه المجموعات الإرهابية في غسل الأدمغة وتحوير الحقائق، ودفع أولئك المغرر بهم إلى هاوية سحيقة .
الواقع أن الانتحاريين لبنانيان، ومن أبناء منطقة المنكوبين المجاورة لجبل محسن، بما يؤكد مجدداً أن سلاح الإرهاب الأمضى ليس مادياً، يتمثل في المتفجرات والرشاشات والرصاص، بل هو معنوي وقيمي يرتبط بعملية بناء القناعات وتشكيل الوعي لدى الشباب، واستغلال العاطفة الدينية في تحويلهم إلى قنابل موقوتة تنفجر بقرار من معدّيها الذين لا يأبهون لا إلى إنسانية ولا إلى دين، ويتمتعون بمستوى أخلاقي شديد الانحطاط، ويقودون عناصرهم إلى الإيمان بتفسير دخيل لتعاليم الدين .
وسواء أقر من يواجهون هذا التهديد الوجودي لبلادهم واستقرارها وسيادتها، بالجانب المعنوي شديد الأهمية، الذي تبني جماعات الإرهاب قوتها على أسسه، أم انصرفوا إلى مواجهة "ميكانيكية" تعتمد الرد العسكري الميداني وحسب، فإن الواقع المشهود يكشف أكثر فأكثر أن المقاربة الأخيرة قد تعالج جوانب شكلية للمسألة، وتترك مضمونها الذي يعيد صياغة التهديد في أشكال جديدة، ويستغل قصور استراتيجية من يواجهون الإرهاب، ليضرب مجدداً من حيث لم يحتسب هؤلاء .
الجانب المعنوي لا يقل أهمية عن قرينه المادي، في وضع استراتيجية المواجهة، ولذلك يبرز على الدوام تحدي تشكيل الوعي وبنائه لدى قطاع الشباب في أي مجتمع منذ مراحل الطفولة والمراهقة، في إطار عملية تثقيفية توعوية شمولية تضع في الحسبان احترام الموروث الديني والاجتماعي والحضاري، والحاجات التنموية والإنسانية للشعب، وتلتفت إلى المهمّشين فتدخلهم في دائرة الحوار، وتبدأ معهم جهود إدماجهم مجدداً في مجتمعهم الأكبر، وتلبي احتياجاتهم التنموية والاقتصادية .
بناء الوعي ليس مسألة مقتصرة على التثقيف والتعليم، وليس مجرد عملية تقودها دولة ما في سياق مشروع استلاب الوعي مجدداً، بمعنى أن هذا العنصر الذي يغيّبه ويذوّبه ويسلبه الإرهاب من الواقعين في شباكه، دافعاً إياهم إلى القتل والانتحار تحت شعاراته المعتادة، يجب ألا يتحول إلى عنصر تغيّبه وتذّوبه الدول والأنظمة السياسية، لأن ذلك لن يكون مختلفاً عن امتهان القيم الإنسانية وإسقاطها .
إعلاء قيمة الإنسان، حجر الأساس لأي عملية مشابهة، لأن الغاية المطلقة التي تسعى الشعوب إلى تحقيقها بمختلف الوسائل الممكنة والمقبولة، تتمثل في العصر الحديث في استعادة كرامة الإنسان وصون حقوقه، وتسخير الموارد والإمكانات في جعل العالم مكاناً أكثر تسامحاً وانفتاحاً وسلاماً .
تشكيل الوعي يحتاج إلى قيمة عليا للاستناد عليها، ولعله في قضية مواجهة التهديد الإرهابي يجد المنظومة القيمية الأهم والأشمل والأمتن التي تكفل له الانتصار على التهديد في نهاية المطاف، متمثلة في الإنسانية كمفهوم شامل عابر للحدود، يطغى على ضيق أفق وظلامية تلك الثلة الانتهازية المتكسبة القابعة على هامش التاريخ والحضارة، ويضع حداً لمخططاتها الهادفة إلى إغراق العالم في الظلام .
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"