الطفل الفصيح وبائــع الأوهــام

00:01 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن

تتعدد أشكال ودوافع الطغيان والتسلط على مر العصور، وقد خيمت ظلالها في أكثر من مكان من الألف الثالثة قبل الميلاد وحتى الآن، ولم تستطع البشرية، ولا الحكمة الإنسانية، والدعوات الروحية، ولا حتى نظمنا المعرفية والثقافية المعاصرة، السيطرة على هذه الإشكالية أو على مسبباتها، ومن هنا لا نستغرب حينما يكون مطلب الإنسان «الشرقي» وطموحه هو العدل في مواجهة شعوره بالظلم أو القهر، وفقدانه الأمل في سيادة قيم العدالة، رغم وجود جهود عظيمة لإقامة العدل والإنصاف، ودعوات الحكمة الربانية، بالتواصي بالحق والصبر والإحسان، وحق الإنسان في الحياة والكرامة.
تحضر إلى الذاكرة قصص العبودية والرق في التاريخ، وحتى النصف الأول من القرن الماضي، وبخاصة في إفريقيا جنوبي الصحراء، ومن بينها قصة «السيد» الإنجليزي الأبيض المستعمر المكلف بإدارة منطقة من إقليم «تنجانيقا» الذي اتحَّد فيما بعد مع زنجبار، ليشكلا جمهورية تنزانيا الاتحادية، وكان هذا «السيد» يخرج يومياً للتريض لمدة طويلة كل مساء، مرتدياً قبعته، وحينما يحل وقت الغروب، يعود إلى منزله، بعد أن يُعلِّق قبعته على أقرب شجرة، ويمضي في طريقه من دونها، وأول إفريقي يمر من بعده، يشاهد القبعة، كان عليه أن يحضرها إلى منزل «السيد»، ويسلمها إلى الخدم، حتى لو كان هذا الإفريقي ماراً في الاتجاه المعاكس، أو حتى على مسافة طويلة منه، وإذا تجاهل أحدهم القبعة، فعليه أن يواجه العقاب، أو يعيش طريد شبح الخوف من أن يكتشف حرس «السيد» ما فعله الإفريقي، وهكذا كان السكوت على الظلم هو طريق العبودية.
عاش أفلاطون وأرسطو في عصر الطغاة الإغريق، حتى بلغ الطغيان درجة الألوهية والعبادة، وحينما سئل أرسطو يوماً عمَّن يصنع الطغاة، أجاب قائلاً: «إنه ضعف المظلومين، ممن استسلموا للظلم وللجهالة، ودخلوا في نسق «العبودية الطوعية»، والتي بدورها تُؤبِّد الاستبداد، كما يبرره المنافقون والمطبلون».
وعادة ما يُفرِّخ الاستبداد استبدادات عديدة تستلهم طقوسه، وتسري عدواه إلى العامة، فيستبد الأب بأهل بيته، ويتغطرس المدرس في مدرسته، ومع تلامذته وزملائه، ويتجبر المدير في مؤسسته أو نقابته، وهكذا دواليك. 
ولا تكفي «غفلة الضعفاء» في تصنيع الطغاة والمتسلطين، وإنما يشارك في تعميقها ونشرها، التطبيل والنفاق، وبيع الأوهام وتسويقها.
وما قصة «الإمبراطور العاري» إلاَّ نموذجاً ساطعاً لبيع الأوهام، وهي قصة تُنسب إلى كاتب دانماركي في القرن التاسع عشر. وتقول الحكاية: إن خياطاً ذكياً ومحتالاً اقترح على إمبراطور مولع بالثياب الجميلة، أن يُخيط له ثوباً جميلاً خاصاً، «لا يراه إلا الأذكياء».
أُعجب الإمبراطور بالفكرة، باعتبار أن الثوب الجديد سيكشف له من هو غير كفء ممن يشغل منصباً في قصره، واستضاف الخيّاط حتى ينتهي من حياكة الثوب الأعجوبة، وحينما طالت المدة، والخياط المحتال يمضي أوقاتاً مليئة بالخيرات والملذات في القصر، أرسل الإمبراطور كبير مستشاريه للاستفسار عن جاهزية الثوب، وما كان من الخياط إلا أن صاح في وجه المستشار، وهو يُقلَّب يديه في الهواء، موهماً المستشار، بأنه يعرض أمامه الثوب وقد جهز، ويقول: «انظر، ألا ترى كم هو بديع هذا الثوب الذي انتهيت من حياكته للتو؟». حينها تذكر كبير المستشارين أنه ثوب «لا يراه إلا الأذكياء»، وحتى لا يُتهم بالغباء، فقد أجاب قائلاً: «آه، كم هو جميل ورائع هذا الثوب، سَلِمَتْ يداك أيها الخياط الماهر».
وتكرر الأمر مع الإمبراطور الذي ارتدى ثوباً لا وجود له، ولم يستشعر ثقله فوق بدنه، وظل يعتقد أنه ثوب عجائبي، لا يراه إلا الأذكياء، وقد سبق أن رآه كبير المستشارين، وأعجب به، وقام شاعر البلاط بنظم قصيدة مطولة في مديح الثوب، والإشادة بالخياط الماهر، وبالألوان المزركشة وبالخيوط الذهبية للثوب.
وفي اليوم التالي، أمر الإمبراطور بإقامة الاحتفالات، وأطل على الناس، وهو يرتدي ثوبه الجديد.
وهكذا كان، فقد أطل الإمبراطور على شعبه عارياً، وسمع الجمهور وهو يهتف، متواطئاً: «يا له من ثوب بديع»، لكن طفلاً بريئاً شذ عن هذه الجماهير المغيب وعيها، وأخذ يضحك بصوت عالٍ ويصيح، «الإمبراطور عريان» وكررها عدة مرات.
حينها توقف الجمهور عن الهتاف، مدركاً أنه متورط في «كرنفال كاذب»، وأمام إمبراطور عارٍ، وخياط ماكر، تلاعب بالعقول. وباعها الوهم، ومنافقين كُثر، وضعفاء مغلوبين على أمرهم.
سخرية الطفل الذكية والفطرية، كسلاح احتياطي ونفسي، كسرت الخوف، وساهمت في كشف بيع الأوهام، وساعدت في إيقاظ وعي الناس، وفتح شرايين التفاعل الإيجابي بين أفراد المجتمع.
يواجه التسلط والاستبداد، بأشكال مختلفة، بداية «بالتي هي أحسن»: بالفكر النقدي، وتحفيز الوعي، من خلال الأدب والشعر والفنون والغناء والسخرية غير المنفلتة، بديلاً عن الغضب والعنف.
وتحضر إلى الذاكرة قصة من أشهر كنوز قصص الأدب المصري القديم والتي تعكس فصاحة وذكاء وشجاعة «الفلاح الفصيح» وقد دُونِّت على أربع برديات وعبرت عن أهمية تجسير الفجوة بين المفكر والسلطان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"