القصة لا تنتهي بعد الظهر

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.يوسف الحسن

في الذكرى التاسعة عشرة للحرب على العراق، واحتلاله بالقوة الغاشمة، وبالمسوغات المغشوشة والمريبة والعارية من الأخلاق والشرعية والقانون الدولي نستحضر المشهد قبيل هذه الحرب، والمعروفة اليوم كوارثها وويلاتها، وحالة التمزق والفوضى والعبث في الخرائط والأقوام، والخراب والوجع الذي يعيشه العراق طوال عقدين من الزمان.

في الشهرين السابقين لهذه الحرب، حذّر كثيرون في العالم من حماقة القوة وغرورها، ومن تجاهل الخبرة من التاريخ.

قوى دولية محترمة كانت معارضة لهذه الحرب، وجابت الأرض لمنعها، ولم تفقد صوابها في غمرة الجنون الإسبرطي، والسعار الحربي التدميري.

بُحنا كعرب لأوروبا «القديمة - العتيقة»، وأسمعناها أنيننا، وأقنعنا أصواتاً إفريقية ثلاثة في مجلس الأمن الدولي للتصويت ضد الحرب على العراق، وأسلمنا أمرنا إلى الآخرين، وما يمكن أن تجود به دبلوماسيتهم ومظاهراتهم في شوارع أوروبية وأمريكا اللاتينية لمنع الحرب.

نعم، لم يفقد ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية، صوابهم السياسي والحضاري، وكذلك فعلت «أوروبا الديجولية» بضميرها الأخلاقي، لكن المفارقة المحزنة أن أوروبا الحضارية صارت «ترجونا أن نصمد كعرب» أمام نوازع السطو والعدوان، بعد أن تحول حديثنا عن الحرب منصباً على مواعيد اندلاعها، لا عن دوافعها وكيفية درئها، والحيلولة دون خطف العراق من الخريطة العربية، وفتح الباب أمام مسلسل جديد من الصراعات والحروب والنزاعات الطائفية والعرقية، والتدخلات الخارجية في الشؤون العربية.

أتذكر دعوة المرحوم الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي الأسبق، في يناير 2003 إلى تجنب الحرب كخيار صحيح ومنطقي «ويحفظ مصالح الجميع»، ورأى في مثل هذه الحرب «ما يؤدي إلى صراعات جديدة، وتمزيق للعراق» وفتح الأبواب أمام «فترة نزاعات طويلة، وفوضى عارمة، وهدم للبنية التحتية، والقضاء على الأمن الداخلي العراقي»، «وتناصر فئات المجتمع» «ومخاطر جمة على المنطقة» «وعلى مصالح أمريكا نفسها».

من أسف، لم تجد أصوات عاقلة وحكيمة صدرت من الإمارات والسعودية وغيرها آذاناً صاغية، وواصل الحواة وقارئات الفنجان يدقون طبول الحرب، ولعبة الموت الجماعي وتهريبها بالاحتيال، وترجمتها بزخرف الكلام عن الديمقراطية والحرية.

نتذكر الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان، الصحفي المدلل في أكثر من بلد عربي، والمتخصص في الشؤون العربية، والذي اعتقد ذات يوم «إن إقامة مطعم للوجبات السريعة، في أي دولة (عربية أو غير غربية) هو علامة للديمقراطية»، أنه بشّر بالحرب على العراق، وفي أكثر من دولة عربية، باعتبار أن هذه الدول وحسب قوله «أوكار للشر والتخلف».

نسي هذا الصحفي المدلل، أو تناسى، أن ديمقراطية «الوجبات السريعة» والمستوردة من الخارج، رغم جاذبيتها، إلاّ أنها تُفسد «الصحة» وتغش المستقبل، فضلاً عن كونها مشاريع مغشوشة، وتضاريسها الطائفية والمحاصصية كاذبة، ولا يسلم منها حتى من يتصور أنه خارجها.

في السادس من مارس 2003، نَشرتُ في «الخليج» تعليقاً على المشهد الراهن والمتفجر حينئذ، ووصفت مبادرة الإمارات التي قدمتها إلى مؤتمر القمة العربية، بالدبلوماسية الوقائية، لإنقاذ العراق من حرب مدمرة، باتت قاب قوسين أو أدنى، وذكرت أن جوهر المبادرة الإماراتية هو: «الحيلولة دون تعرض العراق لحكم عسكري أمريكي مباشر أو غير مباشر، يستفز المشاعر ويستجلب المتاعب والفوضى، له ولغيره»، «ودفع العراق سلمياً، نحو مصالحة عراقية وطنية، في إطار شراكة عربية ودولية، ممثلة بالجامعة العربية والأمم المتحدة».

الإمارات في مبادرة الأفكار التي طرحتها كانت صادقة مع نفسها، منسجمة مع مواقفها القومية، لا تشوبها شائبة، من أجندات خفية، أو طموحات زعامية أو أدوار أو «أكروبات» تلفزيونية، وكانت أول من أعلن الدعوة إلى فك الحصار عن العراق، وغفران خطيئة نظام بغداد تجاه الكويت، لإعادته إلى الصف العربي، وتأهيله للعب دوره المأمول في النظام العربي وتوازن الأمن في الخليج العربي.

وحينما دعت الإمارات إلى رفع الحصار وإنهاء العقوبات عن العراق، انزعج البعض من الأشقاء، لكن الإمارات بجرأة المصداقية التي تتسم بها، كانت تملك المبررات الموضوعية، وحسن استشراف الأوضاع والمستقبل.

كانت تلك المبادرة - الأفكار تستحق مناقشة عميقة من القمة العربية، وصولاً إلى بلورتها أو حتى تطويرها، لتتناغم مع موقف أوروبي يجاهد لوقف جموح ضاربي طبول الحرب، ومن أسف، فإن خطاباً إعلامياً منفعلاً، يعاني ضعفاً في منسوب وعيه الوطني والقومي، في كواليس القمة، كان عبئاً على هذه المبادرة الاستدراكية والوقائية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل هبوب العاصفة.

........

أتذكر قولاً للكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو وجهه في رسالة له إلى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن أثناء الحرب على العراق، قال فيها: «إن ملكاً أوروبياً في قديم الزمان، قال: ربما يكون صباحك جميلاً، وربما تسطع الشمس على دروع جنودك بعد الظهر لكني في النهاية سأهزمك».

نعم، إن القصة لم تنتهِ بعد الظهر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"