نحو «طريق حرير» ثقافي

00:01 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.يوسف الحسن

إن قضية تواصل الثقافة العربية مع الآخر الثقافي المغاير، قضية تستدعي بذل الجهد الكثير والدؤوب والمستدام، خاصة في ظل الظروف والتحولات المتدفقة والمتغيرة، وتعاظم التحديات التي تواجه الإنسانية، والتغيرات العميقة في الأفكار والقيم والسياسة والاقتصاد، والحركات الجماعية للسكان، وانتقالها أو هجرتها أو لجوئها عبر الحدود والثقافات، فضلاً عن ثورات الثقافة وتفجر المعلومات والمعرفة والاتصال، وتداخل الظواهر الثقافية بالأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وعلى مر العصور، وحتى يومنا هذا، فإن «الآخر» الذي نروم التواصل والحوار معه ثقافياً، ليس الغرب وحده، وكأنه هو المقصود ب«الآخر»، وإنما «الآخر» المغاير في كل الفضاءات الثقافية الحضارية التي تشاركنا مسؤولية عمران الأرض وصيانة الكون، فضلاً عن المصالح والمنافع المشتركة، وفتح آفاق للتفاهم، والعيش المشترك بين الناس أجمعين على قاعدة الثقة المتبادلة واحترام الاختلاف، والتعارف، والرغبة الصادقة في إبطال المناخات المفعمة بالمخاوف والصور النمطية السلبية والاستجابة للتطور والاغتناء بالتفاعل بين الثقافات.

 وكثيراً ما كنت أواجه بسؤال حول كثرة الحديث عن الغرب في موضوعات الحوار والتواصل الثقافي، وكأنه هو وحده «الآخر» والوحيد في العالم.

وفي معظم الأوقات، كانت إجابتي تدور حول الإقرار بأن ثقافات الغرب هي الأكثر والأشد تأثيراً في مجتمعاتنا العربية، قياساً بغيرها من الثقافات الأخرى، فضلاً عن امتلاك الثقافات الغربية، ومنتجاتها وآلياتها، الصورة الجاذبة والمغرية والذكية، وهيمنتها على مخيال الكثيرين في عالم اليوم، بحكم قدرتها الترويجية والانتشار الواسع.

ولاشك أنه برغم الجوار الجغرافي النسبي، وكثافة التفاعلات والتبادلات بين العالم العربي والغرب، فإن التواصل الثقافي المؤسسي مازال مبتوراً، فضلاً عن غياب أو ضعف الشبكات التفاعلية بين المجتمعات المدنية في المنطقتين.

في الحوار والتواصل الثقافي مع «الآخر» الغربي عبر العقود الأربعة الماضية، وبحكم تجربتي الشخصية في الحوار، فإن إشكاليات «المساواة والندية والتكافؤ، وتضخيم الذات وتهوين شأن الآخر المغاير، واستمرار الصور والنمطية التي يمتلكها عن الذات وعن الآخر ما زالت تقيد حركة الحوار، وتغذيه سياسات ومسلكيات خاطئة هنا أو هناك، فضلاً عن موروث استشراقي سلبي لم يكن على مدى قرون من الاستشراق مجرد سحابة صيف».

من ناحية أخرى، فإن تجارب الحوار والتواصل الثقافي مع «الآخر» الآسيوي، في الصين واليابان والهند وغيرها، كانت قليلة وغير منتظمة خلال العقود الماضية، وتشير هذه التجارب (ومن بينها تجربة منتدى الفكر العربي في الأردن) في أواخر القرن الماضي، إلى وجود ضعف معرفي متبادل وبخاصة معرفتنا العربية بثقافات تلك الشعوب، رغم أن «قوافل الحرير» عبر التاريخ ربطت ما بين الوطن العربي، وبخاصة موانئ دبا وصحار وغيرهما بآسيا وإفريقيا، وموانئ أوروبا في المتوسط.

وفي تقديري، أن الضعف المعرفي له أسبابه من بينها: أن الثقافات الآسيوية مرت بمرحلة انكفاء على نفسها، وعزفت عن التفاعل الثقافي مع الآخر البعيد، كما شكل التواصل اللغوي عقبة في هذا المجال، فضلاً عن أن لغة الأرقام الحسابية والسلعة الاقتصادية كانت طاغية في علاقاتها مع الآخر.

قبل سنوات، أنشئ «منتدى التعاون الصيني العربي» وأصبح إطاراً مهماً للحوار والتعاون العملي بين الجانبين.

ونتطلع أن يشكل طريق الحرير الجديد، بتسميته الحديثة: «طريق واحد - حزام واحد»، وفي أزمنة التنوع الثقافي، والتعدد الإثني والديني، وثورات العولمة والثقافة والاتصال والمعلومات، طريقاً للتواصل والحوار الثقافي والحضاري والمعتقدات المعتبرة، بحثاً عن المشترك الإنساني، وتبادلاً للخبرات الثقافية والروحية، وقيم العمل والنظام، وصولاً إلى نظام دولي أكثر عدلاً وعقلانية.

نفتقد في مكتبتنا الثقافية العربية بحوثاً وكتباً موضوعية وعلمية عن صورة العربي أو الإسلام في المخيال الآسيوي أو الإفريقي أو الروسي.

ونعرف أن هناك تيارات سياسية يمينية متطرفة تحمل تنميطاً عدوانياً لصورة العربي والإسلام، وينظر إليه باعتباره (ثرياً، ومتخلفاً، أو عنيفاً، ومتعصباً)، لكنها في المجمل صورة أقل عدوانية من تلك الصور النمطية البائسة الموجودة في مخيال غربيين، والتي تستدعي ظواهر من العنصرية والتمييز والكراهية.

وفي الوقت نفسه، لابد من الاعتراف بأن هناك خطاباً عربياً وإسلامياً ما زال يرى في الغرب المعاصر استمراراً للغرب الاستعماري، وبعض مفردات هذا الخطاب يشمل صوراً نمطية سلبية عن الآخر الغربي مثل سمات الهيمنة والإلحاد والمادية والإباحية والأنانية.. إلخ.

إن استمرار وجود الصور النمطية لثقافة عند أخرى يؤدي إلى تغذية ضروب الكراهية الجماعية، وتعزيز ظواهر التمييز والعنف والخوف المتبادل.

..........

حينما سُئل المستشرق البريطاني الأسقف كينيث كراج: كيف تكتب نصوصك المتعلقة بالإسلام؟ أجاب: «أتصور دائماً أن مسلماً يقف وراء كفي، ينظر إلى ورقتي وأنا أكتب، وكأني به يريدني أن أكتب ، على الأقل، ما يُنصفه ولا يُغيظه».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"