تأملات «صيفية» - 1

00:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.يوسف الحسن

في هذا الصيف، فرصة للإنسان للتأمل في نمط حياة عشناها، وعاشتها البشرية خلال فترة ولادة وصعود وتراجع (شيخوخة) جائحة «كورونا». طوال العامين المنصرمين، تغيرت فجأة أنماط سلوك وإنتاج ونظم، وسادت مناخات قاسية من الخوف والعزلة والأنانية والاختبارات العسيرة للسياسات والإدارات الحكومية، واختفى الحيّز العام للمدينة، التي هي الإطار الأساسي للحياة الاجتماعية، واستبداله بحيز عام افتراضي، تنتظم خلاله علاقات الناس، وتعليمهم واجتماعاتهم وتواصلهم وأشغالهم وأعمالهم، وقيل وقتها إن «مساعد طبَّاخ في مستشفى حكومي، هو أهم من خبير تسويق».

حسناً ....

تغلَّبنا على هذه الجائحة، بالإرادة وبالوعي وبالالتزام الصارم بإجراءات السلامة، وبفضل علماء وعلوم، وروَّاد مبثوثين في أنحاء مختلفة في بلادنا وفي العالم، نذروا أنفسهم للعلم والبحث والتطوير، وفي الوقت نفسه، أدركت البشرية أن التقدم العلمي والتكنولوجي والتطور الاقتصادي ليسا كافيين لمنع «فيروس» صغير في سوق للمأكولات البحرية في الصين من قلب العالم رأساً على عقب.

إن الجوائح التي أصابت البشرية عبر التاريخ، تحولت إلى محرك أساسي للتطور الحضري، وتصميم المدن وتوفير شروط حياتية أفضل، في مجالات الكثافة السكانية، وفصل المناطق الصناعية عن مناطق سكان الناس، وإيجاد «أحزمة» خضراء تحيط بالتجمعات السكانية، وغيرها من الشروط المتعلقة بالصحة والبيئة والتعليم والإنارة والتهوية والظروف الصحية للسكان.. الخ.

وتذكر الوثائق التاريخية أن مجموعة من الأوبئة أصابت أهل الجزيرة العربية والخليج، مثل موجات أوبئة الطاعون والجدري والكوليرا والملاريا والحمى الإسبانية. وكشفت هذه الوثائق أن الحمى أو «الإنفلونزا الإسبانية»، قتلت من الإسبان نحو ثمانية ملايين شخص، وأطلق أهل الجزيرة العربية على هذه الحمَّى في العام 1918، «سنة الرحمة» وتوفي خلالها الكثير من الخلق، ومن بينهم الأمير تركي بن عبدالعزيز الابن البكر للملك عبدالعزيز آل سعود وزوجته الأميرة جوهرة بنت مساعد، وكان الأهالي وقتها يهربون إلى الجبال، ويعزلون المريض في بيوت على أطراف البلدة.

وفي ثلاثينات القرن الماضي، عرفت الكويت وباء الجدري ومات بسببه نحو ثلاثة آلاف شخص، والذي ينجو منه كان أحياناً يصاب وجهه بالتشوه أو بالعمى.

وفي العصر الحديث، وقبل عام من الاستقلال وقيام الاتحاد في الإمارات، تفشَّى وباء الجدري في عدد من المدن، وتذكر جريدة «الخليج» في عددها الصادر يوم 28 ديسمبر 1970، أن عدداً من الإصابات ظهر في حي «القصيص» في دبي، وعللت أسباب هذا الوباء، بغياب «الرقابة الصحية على القادمين والمتسللين عبر البحر» فضلاً عن ضعف الوعي الصحي، وغياب التطعيم.

كما تحدثت مجلة «العربي» في استطلاع لها صيف 1968 عن الملاريا المنتشرة في المنطقة، وأن تلاميذ المدارس كانوا يتلقون أقراص الوقاية منها في صفوفهم. وانتشر هذا الوباء من خلال الذباب الذي كان يتواجد بكثرة فوق أجسام أسماك العومة المجففة والتي تستعمل كسماد للزراعة.

أتذكر المبشر الأمريكي زويمر المتوفى في عام 1952 الذي تلقى دورات تدريبية طبية وصيدلانية في نيويورك، ومارس المعالجة قبل تخرجه في المعهد اللاهوتي في العام 1890، وتعلم العربية في بيروت والقاهرة. أتذكر أنه أسس «مستشفى مايسون» في البحرين، وزار أبوظبي ثلاث مرات، ووصفها بكل إعجاب واحترام، وبخاصة حاكمها الشيخ زايد بن خليفة، ووصلها أول مرة من البحر، ثم توجه على ظهر بعير إلى عدد من مدن الساحل الإماراتي حتى وصل إلى مسقط، وفي زيارته الثانية، والتي كانت في العام 1902، التقط صورة لقصر الحصن في أبوظبي، ولعلها أقدم صورة للقصر حتى الآن.

وقد تحدث هذا المبشِّر والممرض في كتابه «رحلات متعرجة في بلاد الإبل» عن تفشي أمراض الطاعون والكوليرا، أثناء مواسم الحج، وكان في كل زياراته إلى الإمارات، يحمل معه (صندوق أدوية)، فضلاً عن صندوق آخر يحوي كتباً دينية تبشيرية، وكان يقول «كنت أستقبل فضوليين ومرضى، من الفجر حتى غروب الشمس».

وقد تحدث صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في كتابه «سيرة مدينة - الجزء الثاني» عن استشراء وباء الجدري في عام 1935 في جميع مناطق إمارات الساحل، ووفاة نحو تسعين شخصاً منهم ستون في دبي، ومئات من المصابين، وقد قامت سلطات مطار الشارقة (المحطة)، بالكتابة إلى بغداد، فأوفدت السلطات طبيباً قام بتطعيم العاملين في محطة الشارقة الجوية، وقد تم استيراد اللقاح من كراتشي، كما قام المعتمد البريطاني السياسي في البحرين بإيفاد ممرض لأجل تطعيم عدد من المرضى في مدن الإمارات الأخرى.

ويذكر سموه في كتابه «أن حاكم الشارقة في ذلك الوقت، الشيخ سلطان بن صقر، اعتاد أن يطلب أدوية كلما زار سفينة حربية بريطانية ترسو في ميناء الشارقة».

........

إن التأمل في موجات الأوبئة يكشف مدى هشاشة الإنسان، ومدى أهمية اقتصاديات التضامن الإنساني، والحاجة الماسة لترتيب أولويات التنمية والأمن الإنساني بأبعاده الصحية والغذائية والبيئية والحكم الرشيد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"