عولمة الثقافة في العقول الآلية

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ندى أحمد جابر *

العولمة تختلف عن العالمية، هكذا تعاطى أكثر الباحثين بتخوف من سيطرة دولة بعينها ثقافياً على مجتمعات تنهض لتواكب التطورات الجديدة خاصة التكنولوجية منها. لكن في المقابل هناك دول لها تاريخها الثقافي وتراثها الذي تخشى على الأجيال الصاعدة من نسيانه في غمرة انفتاحها على المتغيرات العالمية.

نحن نعلم أن العولمة الثقافية تعني نشر الأفكار الغربية، بوسائل منها الأدب الغربي الذي أخذ يتسلل إلى مجتمعاتنا باسم الحداثة، ومنها شبكة المعلومات الدولية والفضائيات التي أصبح انتشارها في العالم ممكناً، بعد أن ثبّت الغرب في الفضاء عدداً كبيراً من الأقمار الاصطناعية. نحن لسنا ضد الانفتاح ولكن ليس على حساب الهوية الوطنية وفرض السيطرة على العقول البشرية لدفعها نحو إدمان المنتجات الثقافية الغربية التي تصل إلينا بتقنية مُبهرة، بحيث تصبح الشعوب مُستهلِكة فقط، وهكذا تقمع الإبداع المحلي بتفوقها التقني والمادي في تمويل ونشر الثقافة والعادات الغربية.

تعمل ماكينة الإعلام الغربي على توحيد أشكال التعبير الثقافي في جميع أنحاء العالم. ومن أهم مظاهر العولمة الثقافية انتشار اللغة الإنجليزية وسيادتها. فنرى أن إتقان اللغة الإنجليزية شرط رئيسي في مختلف جوانب الحياة، سواء في العمل أم في المناهج التعليمية. وفي مقارنة بين مفهومي العولمة والعالمية نجد أن أكثر الباحثين قالوا إن العولمة فعل مفروض يتطلب انصهار الجميع في بوتقة واحدة، في حين تعني العالمية الخروج من قوقعة المحلية والانفتاح على العالم كل العالم. يصف بعضهم العولمة أنها تتطلب الانسلاخ ولو جزئياً عن القيم الثقافية والمبادئ المحلية والذوبان في الثقافة الغربية. من ناحية أخرى يجيب المدافعون عن العولمة أنها زادت من التفاهم والمشاركة بين الثقافات.. وأن هذا التمازج يمكن أن يُلهم الفنانين ويُقوي الروابط بين الدول.. ويطول الجدل بين المدافعين عن ثقافة العولمة والمتخوفين منها..

بدأت هذه المخاوف منذ اختراع العقل الآلي الأول والإنترنت الذي كان محور نشاطه ربط العالم وجعله قرية صغيرة. لكن القرية اليوم تشهد خروج مارد من قمقم أودية السيليكون.. مارد يَعد بتحقيق أمنيات كان من المستحيل الحصول عليها سابقاً.

بدأت الأمور تتغير، استدار الباحثون بعيداً عن جدلهم القديم ليدور جدل جديد.. عولمة الذكاء الاصطناعي.. سيطرة العقل الآلي على البشرية.. رغم الإغراءات البراقة التي حملها الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي.. رغم أمنيات حققها مثل تسهيل البحوِث وتسهيل الترجمة والإنجازات المهمة في كل المجالات خاصة الطبية.. والتقنية التي انعكست على الإنتاجية وسهلت الحياة الثقافية والحياتية. كان المارد صادقاً في وعوده.. لكن ما حدث هو أن المارد بدأ يهدد بأنه قد يحكم البشرية. نسينا مخاوف وتبعات الثقافات الغربية وهرعنا نتعلم ممن طوروا هذه التقنية التي حملت الخير الظاهر والشر المخفي ومستقبلاً لا يستطيع المطورون أنفسهم التنبؤ به.. وفي هذا يقول خبير الذكاء الاصطناعي محمد جودت، وهو كبير مسؤولي الأعمال السابق (لغوغل إكس): الذكاء الاصطناعي هو تتويج للتقدم التكنولوجي وهو سيكون سبّاقاً في التأثير على الطريقة التي يتشكل بها العالم. وقد كتب كتابه الشهير (Scary Smart) وهو كتاب مملوء بسيناريوهات نهاية العالم. وفيه يرى أن الذكاء الاصطناعي سيتطور بسرعة وانسجام بحيث يصعب الإمساك به. الخوف هو أننا نتسابق نحو مستقبل لا يمكننا التنبؤ به.. يعني نتسابق نحو مجهول قد يبدو مطيعاً، كذلك المارد القادر على تحقيق كل ما نريد وقد ينقلب فجأة ليصبح مارقاً ويتم اختراقه.

ومن بين المحذرين، فاي افي لي خبير الذكاء الاصطناعي في جامعة ستانفورد، وجيفري هينتون الذي استقال من منصبه في غوغل بسبب المخاوف نفسها، حتى إن سام التون رئيس (Open AI) التي طورت (Chat GPT) لا يخفي مخاوفه من سيطرة الثقافة الآلية الجديدة مع تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي، وقد أصبح اليوم قادراً على التأليف الموسيقي وإنشاء فيديوهات، وكتابة المؤلفات الفكرية لدرجة أثارة حفيظة كتّاب السيناريوهات في هوليوود. وقد انضم اليهم في سابقة لم تحدث من قبل الممثلون، في الإضراب الشهير في 13 يوليو/ تموز الماضي 2023، وكان من بين مطالبهم زيادة رواتبهم وضمان عدم فقدانهم وظائفهم في ظل تطور روبوتات الذكاء الاصطناعي القادرة على كتابة المسلسلات والأفلام وهي مخاوف يمكن التعبير عنها بشكل آخر..

مخاوف سيطرة الآلة وذوبان الإبداع البشري في عولمة الثقافة الجديدة.. إنها ثقافة العقول الآلية.

* [email protected]

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yy4rpjzc

عن الكاتب

كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"